-
ع
+

سنن الفهم الديني

 يحيى محمد

يتأثر الذهن البشري بعدد من العوامل التي تُحدِث مفعولها في نشاطه، فتحدد بذلك مسار ادراكه وعلمه وفهمه. وقد تكون هذه العوامل داخلية ضمن طبيعة الانسان من حيث تكوينه البايولوجي - ومنه الاثر الجيني - والنفسي، كما قد تكون خارجية تتمثل بتأثير البيئة والمحيط وروح العصر والزمان، وما يستتبع ذلك من بنى ثقافية مختلفة.

وقد يكون من ضمن هذه العوامل ما يحدثه النص ذاته من امكانات الفهم المفتوحة او المتعددة بلا حدود. فالنص مؤلف من الفاظ وسياق ومجال، وهذه العناصر الثلاثة تضفي على النص امكانات للمعاني المختلفة حتى مع فرض ثبات سائر العوامل الاخرى الخارجية، كتلك المتعلقة بالواقع. فطالما كانت هناك معاني مختلفة للالفاظ، وهي تشكل العمود الفقري للنص، فذلك يجعل من الفهم متشعباً ومفتوحاً على مصراعيه عادة. وبالتالي تعتبر هذه الحالة سنة من سنن الفهم التي لا تتوقف على شيء، ولا تنضبط بضوابط وقواعد. فالفهم هنا هو فهم تكويني او وجودي وفقاً للتعبير الغاداميري، فهو فهم مفتوح وسيال مسترسل بلا حدود، سواء كان فهماً منضبطاً بقواعد محددة ام لا. فأي نص عندما يدخل ساحة الفعل والوجود فسيواجه الفهم المفتوح بلا حدود من الناحية السننية او الوجودية. ورغم ان حالة الفهم المفتوحة ليست حتمية، بمعنى انه لا يمتنع ان يتفق الكل على فهم محدد للنص دون زيادة ولا نقصان، لكن احتمال حصول ذلك هو من المستبعد لدى الجماعات البشرية كذوات قارئة. ولا شك ان هناك عوامل عديدة تلعب دوراً في زيادة انفتاح الفهم وتعدده، مثل غموض النص واجماليته، ومثل مساحة رقعة النص، وهي سلاح ذو حدين، فقد تكون المساحة ضيقة ومجملة مما يجعل النص قابلاً للتأويلات الكثيرة، كما قد تكون المساحة واسعة فتضفي ابعاداً تقريبية لتضييق دائرة التأويل، لكنها في الوقت ذاته قد تفتح مجالاً اكبر للتأويل بقدر وساعة الرقعة ذاتها.

هذا فيما يتعلق بالنص وعلاقته بالفهم المفتوح كسنة عامة وان لم تكن ملزمة كقانون عام. لكن لو درسنا قضية الفهم خارج حدود تأثير النص ذاته فسنجد ان الواقع في جميع تجلياته يمثل أهم عامل مؤثر في الفهم، الى الحد الذي يفضي تغيره الى تغير الاخير. فبتغير الواقع تتغير الثقافات والعلوم والايديولوجيات، وكل ذلك يؤثر في الفهم الديني قاطبة.

فالكثير من المفاهيم التي كان يفهمها القدماء بصورة معينة قد تغير فهمها اليوم، ومن ذلك ما يتعلق بالاحكام الشرعية، مثل مفهوم القوة وحكم رباط الخيل، واعتبارات توزيع الغنائم والرق وما اليها. فجميع هذه التغيرات نتجت بفعل تغير الواقع، ولولاه ما حصل ذلك، او قلما يحصل. وعلى هذه الشاكلة التغيير الحاصل في الاعتقاد احياناً، كالذي يتعلق بالعلوم الخمسة المستأثر بها على العباد وفقاً لبعض الايات القرآنية والروايات النبوية، ومثلها ما يتعلق بفهم السماوات السبع وتاريخ خلقها مع الارض والانسان وما الى ذلك من قضايا.

وعليه نستخلص السنة الطبيعية التالية:

«كلما تغير الواقع؛ كلما دعا ذلك الى تغير الفهم معه باضطراد». وعلى هذه الوتيرة كلما اشتد تغير الأول كلما افضى ذلك الى زيادة تغير الثاني بالتبع.

وأكثر من هذا نقول بأن المفاهيم الأولية للذهن البشري لما كانت تُنتزع عن الواقع، وأن النص من حيث الأساس يستعين بلغة الواقع دون التعالي عليه، وإلا كان رموزاً بلا معنى محصل، فستكون النتيجة في النهاية بأن فهم النص لا يمكن أن يتقدم على فهم الواقع، بل سيصبح الأول مستبطناً للفهم الأخير. وهذا يعني أن جميع الدوائر المعرفية للفهم ستكون مسبوقة بالقبليات المتعلقة بإدراك الواقع ومفاهيمه. وحتى الدائرة البيانية لا يسعها فعل شيء من غير التسلح بمفاهيم هذا الواقع إبتداءاً، كالذي يُطلق عليه الفهم العرفي للنص والذي تعوّل عليه الدائرة البيانية كأصل مولّد للفهم. فمثلاً ان قواعد من قبيل حجية الظهور وتقييد المطلق وتخصيص العام والنسخ وما اليها كلها تعد قواعد عرفية يستخدمها الناس في حياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية، ومن ثم بنى عليها البيانيون ومنهم الفقهاء طريقتهم لفهم النص الديني. كذلك فيما يخص تعميمات الحالات الخاصة التي يثيرها النص الديني هنا وهناك، فهي قائمة على التعامل العرفي او ما يسمى بالفهم الاجتماعي للنص.

وفي القبال قد يطرح ما للفهم من دور في تغيير الواقع، فاحدهما يعمل على تغيير الاخر، وان كان الاساس في التغيير يعود للواقع لا الفهم، وهو امر يجعل من العملية تتخذ طابع الجدل التاريخي، مثلما كان للخطاب الديني حالة من الجدل المباشر مع الواقع، اذ كان احدهما مؤثراً في الاخر. فقد أحدث الخطاب تغييراً للمجتمع العربي من المرحلة المكية الى المرحلة المدنية وما استتبعها من نشأة الدولة الاسلامية، في حين اتخذ الواقع دوراً لتقييد وتغيير ما يريد الخطاب تنزيله وتطبيقه. فهذه هي الجدلية بين الخطاب والواقع قبل ان يتغير الاخير ويتحول الاول من الخطاب الشفاهي الى النص المدون، فبعدها بدأ الواقع يؤثر في النص كسنة عامة عبر القرون وحتى يومنا هذا.

وينطبق الحال على العلم ايضاً، فهو يغير من الواقع رغم ان اساس التغيير يكون بفضل الواقع. ويلاحظ في الموضوع ان الجدلية حاصلة بين ما هو منضبط وغير منضبط. فالواقع يؤثر في الفهم والعلم بدافع غير منضبط، في حين ان تأثير الفهم والعلم على الواقع عادة ما يكون وفق قواعد منضبطة.

وبعبارة ثانية، ان تأثير الواقع على الفهم هو تأثير يجري وفق السنن الكونية او الانسانية، ولهذا يتصف بعدم الانضباط. وكل ما يمكن فعله هو مراقبة جريانه من دون ان يكون لنا دور في التأثير في هذه العلاقة السننية. رغم انه من الممكن الاستفادة من هذه السنة عبر تحويلها الى قواعد اجرائية للفهم، او تحويل ما هو موضوعي إلى حالة معرفية لاستكشاف الطرق المناسبة للفهم بوعي وتصميم.

على ذلك يمكن دراسة سنن الواقع المؤثرة في الفهم وفق الفقرات التالية:

أولاً:

إن تأثير السنن، ومنها السنة المذكورة انفاً، لا يعد تأثيراً محتماً على الفهم والقراءة. فقد يتأثر بعض القراء في موضع ما دون البعض الاخر. لكن من المحال تجاوز هذه السنن، فمع انه يمكن تجنب التأثير الخارجي لها في بعض الموارد؛ الا انه يستحيل تجنبها على طول الخط. فحتى لو كان بعض القراء بمأمن منها فانها تؤثر في البعض الاخر، كثيراً او قليلاً. فهي اشبه بقانون دوركايم في الانتحار الأناني، حيث الاضطراد الحاصل بين العلاقتين: العزلة الاجتماعية والانتحار، اذ لا يُفهم من صدق هذا القانون تعرّض كل انسان للانتحار لمجرد أنه يعاني من العزلة، كما لا يعني أن من غير الممكن تجنب هذه النتيجة عند الوعي بها.

ورغم ان من المستحيل تجنب تلك السنن وتجاوزها، الا ان من الممكن تخفيف ضغوطها وآثارها. فعندما نقول - مثلاً - بأن الواقع المعاصر قد أثر على تفسير القرآن في مجال علوم الطبيعة، او في مجال الاحكام، لا يعني ذلك ان جميع المهتمين بالفهم قد وقعوا تحت وطئة هذا التأثير، وإلا ما كان للباحث سعة في الإبداع خارج حدود ما تفرضه البيئة والروح العامة للعصر. فلكل عصر هذه الروح التي تؤثر في فهم الانسان وادراكه. وهي سنة لا علاقة لها بالقواعد المنضبطة والخيارات الاجرائية. لكن من الممكن استخلاص القواعد المنتزعة منها وتوظيفها في عملية الفهم.

وبالتالي لا يخلو الحال من وجود التأثير المزدوج بين الإبداع والإتباع. اذ ليس كل ما نجده من نتاج يمثل إبداعاً، ولا كله يعبر عن تقليد وإتباع، بل كلاهما وارد وصحيح.

هكذا ان السنن تؤثر في الفهم، وقد يزداد التأثير هنا فيما يقل هناك، كما قد يتفاداه البعض قدر الامكان دون البعض الاخر، لكن مفعوله العام يظل سارياً دون انقطاع. لذلك انقسم واقعنا المعاصر الى اطياف مختلفة بعضها مازال يعيش كما لو كان يعاصر مجتمعاً قبل الف سنة، في حين يقابله اخر حداثي النزعة قد قطع صلته بالتراث، كما هناك اطياف تتوسط بين هذين الحالين. مما يعني ان التأثر بالواقع يتفاوت من درجة لا تصل الى مستوى الصفر، لكنها لا تبلغ في الوقت ذاته الى اعلى درجة ممكنة (اي 100%).

ويمكن ان نستنتج من ذلك ان البيئات الملتزمة دينياً تكون اكثر محافظة واقل تأثراً بتطورات الواقع وتجدداته لدى الفهم الديني مقارنة بغيرها من البيئات. وان البيئات المغلقة نسبياً هي ايضاً تعتبر اقل تأثراً بتلك التطورات في ممارستها للفهم مقارنة بالبيئات المفتوحة. وعليه تكون الاقسام الاسلامية في الجامعات الاكاديمية اكثر تحرراً من الحوزات الدينية عادة1. كما ان للواقع تأثيراً مختلفاً على الموضوعات الدينية، وفق ارتباطها بالضغوط التي يمارسها الاول، فالقضايا التعبدية مثلاً لا تتأثر كثيراً بالواقع المتجدد مقارنة بالقضايا القصدية، ومثل هذه الاخيرة ما يتعلق بقضايا العلوم الطبيعية مقارنة بغيرها.

ويمكن تقرير ان جميع انماط الفهم ونظمه تكون مسبوقة بالتأثر بالواقع المعاش ومفاهيمه، وهو ما يجعل ادراك الواقع من القبليات الذي يتيح لنا الفهم حتى وإن لم نتعقله، فنفهم ونفكّر به وإن لم نفكّر فيه. وبالتالي ما من نظام او دائرة معرفية الا ويتأثر بهذه السنة الموضوعية وان اختلف حجم التأثير فيما بينها. فمثلاً عادة ما تكون الدائرة البيانية الصرفة اقل الدوائر تأثراً بهذه السنة لشدة تمسكها بالمعنى الحرفي والعرفي للنص. لذلك كان للبحث التاريخي للفهم – كما سبق عرضه -اهمية خاصة بهذا الشأن.

ثانياً:

يمكن ارجاع تأثير السنن الى القبليات غير المنضبطة، اذ يتولد هذا التأثير عن اسباب مختلفة، بعضها تكويني كالتأثير النفسي والبايولوجي، والبعض الاخر مكتسب كالتأثير البيئي باصنافه المختلفة: الطبيعية والاجتماعية والسياسية والايديولوجية وما اليها. ويتصف التأثير الذي تمارسه هذه الاسباب بالازدواج، فهو يجمع بين عاملين: معرفي ونفسي، وهو بالتالي يعبر عن الميول النفسية للمعرفة، مما يجعله من القبليات غير المنضبطة. فكلما كان الفهم متأثراً بالعامل النفسي او المزاجي؛ كلما كان هذا الفهم يعود الى القبليات غير المنضبطة، سواء كان بفعل الاسباب التكوينية او المكتسبة، اذ في كلا الحالين تكون القبليات غير ممنهجة، او انها لا تخضع للقواعد الدقيقة كما هو الحال مع القبليات المنضبطة. لذلك فان التأثيرات المكتسبة قد تولد صوراً ايديولوجية تجعل من الفهم يتخذ قالباً تبريرياً.

والميزة التي تمتاز بها هذه السنن هي أنها تؤثر في الفهم تأثيراً غير ذاتي، خلافاً للقوانين. فهي تخضع لعوامل عارضة، ولا تفرض نفسها على الفهم فرضاً محتماً. فمن الصحيح - مثلاً - ان تغير الواقع يبعث على تغير الفهم، لكن هذا التأثير ليس محتماً كما عرفنا، بدليل ان الفهم جارٍ بلا تعطيل حتى مع فرض ثبات الواقع. فالفهم قائم سواء تغير الواقع او ظل ثابتاً، رغم انه في كلا الحالين يتأثر بالواقع قليلاً او كثيراً.

ثالثاً:

يمكن الاستفادة من سنة الواقع بتحويلها مما هي سنة لا علاقة لها بالخيارات المنهجية، الى قواعد منهجية منضبطة، عبر التعرف على حدود اثر الواقع في فهم النص، ودور العلوم البشرية في الفهم وحجم الاستفادة منها. وبذلك يمكن تحويل القبليات غير المنضبطة - الناشئة عن تأثير الواقع في الفهم - الى قبليات منضبطة، بانتزاع القواعد المناسبة التي تساعد على صياغة الفهم بدقة ضمن الخيارات المتاحة. ومن ثم يمكن تحويل ما هو وجودي تكويني الى معرفي ابستيمي. بل يمكن التعبير عن ذلك باختراق ما يطلق عليه العقل المكوَّن بالعقل المكوِّن، اذ يتصف الأول بثقافة التقليد الراكدة، في حين يمتاز الأخير بإبداع الفكر الجديد الذي يتقدم به العلم، وهو ما يحتاج الى القواعد الإجرائية كتلك المستلهمة من الواقع، او من العقل المكوَّن ذاته بعد اجتراحه وانتزاع العقل المكوِّن منه وفقاً لتعبير لالاند عن الفكر والثقافة. فالعقل المكوِّن لا يمكنه أن يكون مجرداً وخالياً عن حمل العقل المكوَّن، كما أن العقل المكوَّن هو الآخر يحمل في ذاته عقلاً مكوِّناً وإن كان لا يبدو في الظاهر. وبعبارة ثانية، إن كل ما نعتقد أنه جديد يصل إلى الحد الذي نطلق عليه العقل المكوِّن ليس جديداً باطلاق، بل لا بد أن يتضمن جذوراً سابقة، كما أن كل ما نعدّه سائداً ليس فيه جدّة؛ يمتلك في حد ذاته ما سوف يظهر بمظهر الجديد، أو أن الجديد لا يقوم إلا به. الأمر الذي يؤكد ظاهرة التداخل بين العقلين المكوِّن والمكوَّن على صعيد الواقع، مما يجعل التقسيم الخاص بهما لا يتجاوز التقسيم المنهجي، لكن مع اخذ اعتبار ان العقل المكوَّن يمثل السنة الواقعية، خلافاً للعقل المكوِّن الذي يبتني على القواعد الاجرائية

ومن حيث الدقة فالعقل على ثلاثة أصناف: مشدود (مكبّل) ومهدود (منفلت) وخلّاق (مبدع). فالأول هو العقل السائد المتصف بالمحافظة والتقليد، وهو ما يماثل العقل المكوَّن. والثالث هو العقل المتصف بالإبداع المستند إلى أسس وقواعد منضبطة، وهو ما يماثل العقل المكوِّن. أما الثاني (المهدود) فهو العقل المتمرد من دون التزام بقواعد منضبطة أو ثابتة، فهو ليس من العقل المكوَّن ولا المكوِّن.

وبذلك يصبح الواقع مرتبطاً بكل من القبليات غير المنضبطة والقبليات المنضبطة، او قل ان له تأثيراً مختلفاً؛ تارة بعنوان السنن، واخرى بعنوان القواعد.

وبعبارة اخرى، ان للواقع دوراً فاعلاً في تحديد مسار الفهم، سواء من حيث ارتباطه بالقبليات غير المنضبطة، وهو ما يدخل ضمن السنن، او من حيث ارتباطه بالقبليات المنضبطة، كالذي يدخل ضمن القواعد الممنهجة.

ويمكن ان ندرك التأثير الحاصل لسنة الواقع على صياغة القواعد المنهجية والافكار المقصودة من خلال لحاظ ما تنبه اليه الفقهاء حول اهمية مقالة الزمان والمكان في تأثيرهما على تغيّر الأحكام. فقد ظهرت هذه المقالة بعد لحاظ تأثير الواقع على الاحكام الفقهية. كذلك الحال فيما يتعلق بالتعويل على قاعدتي المصالح المرسلة والإستحسان. فمن المعلوم انه كانت لابي حنيفة خبرة في السوق والتجارة هي ما جعلت فتاويه تتخذ طابعاً محدداً، اذ كان يترك العمل بالقياس لصالح العرف والإستحسان، لا سيما عندما يتعلق الأمر بموارد البيع والشراء2. وكذا كان الإمام مالك يعمل بالإستحسان والمصلحة المرسلة تأثراً بتعامل الخلفاء الراشدين مع الأمور المستجدة3، مما يعني تأثره بواقع الدولة وأحكامها التي فرضها الواقع بقوة. الامر الذي يتسق مع قوله بأن الإستحسان هو تسعة أعشار العلم4، فمن مصادر الإستحسان الترجيح بالعرف والمصلحة، وكلاهما ينضويان تحت لواء الواقع، وبالتالي فصياغة الأحكام قائمة على مبدأ مراعاة الواقع وجعل الأحكام مصطبغة به من غير تعال، استناداً إلى مقاصد الشرع. ومن المعلوم ايضاً ان للواقع تأثيراً على تغيير اراء الشافعي وفتاويه حين انتقل من بغداد الى مصر فأطلق عليها المذهب الجديد في قبال مذهبه القديم

هكذا ان لتلك الاحداث سنناً مؤثرة في الفهم، وكما يقول المرحوم مرتضى مطهري حول علاقة الفتوى بواقع الفقيه وظروفه: ‹‹لو أن أحداً أجرى مقارنة بين فتاوى الفقهاء، وتعرف في الوقت نفسه على ظروف حياة كل فرد منهم وطريقة تفكيرهم في مسائل الحياة، لعرف كيف أن المنظورات الفكرية لكل فقيه ومعلوماته عن العالم الخارجي المحيط به تتأثر بها فتاواه، بحيث أن فتوى العربي تفوح منها رائحة العرب، ومن فتوى العجمي رائحة العجم، ومن فتوى القروي رائحة القرية، ومن فتوى المدني رائحة المدينة››1.

وتبقى ان هذه السنن قابلة لتصاغ وفق قواعد منهجية منضبطة للفهم.

رابعاً:

ينطبق ما ذكرناه على حالة الادراك والعلم معاً. فادراكاتنا متأثرة بالسنن التكوينية والمكتسبة، ومن ذلك الصور والتمثلات التي ندرك بها العالم والوجود، بحيثان كل فرد منا يدرك عالمه بما لا يطابق ما يدركه الآخر تمام المطابقة، رغم حصول التشابهات بين هذه الصور والتمثلات. فاحساسي بلون المنضدة التي امامي لا يطابق احساس غيري بلونها، وكل ذلك يعتمد على تركيبة الجهازين الحسي والعصبي، وهما ليس على تطابق تام بين الافراد، رغم التشابه الكبير. لكن خبراتنا الشخصية والمشحونة بالأثر النفسي تعمق من حالة الاختلاف بين ادراكات البشر، وتجعل منها اطاراًمرجعياً للرفض والقبول وأداة للتنقيةوالفلترة، اذ يخضع كل معطى ادراكي لاحق أو جديد إلى فحص هذه الأداةالمترسبة، بغير وعي غالباً، فتتقبلالمعطياتالتيتتفق معها، وترفض ما سواها، أو تعمل على تأويلها. فهي مسلمات أو عقائد يصعب تجاوزها أو هدمها، كما انها تشكل قبليات ذاتية في الفهم الديني، سواء كان هذا الفهم منضبطاً أو غير منضبط.

والحال ذاته ينطبق على العلم. فقد بات من المعلوم ان الاخير يتأثر بالنواحي النفسية والبيئية، وان هناك صعوبة للتخلي عن الخطأ المعتاد ولو كانت ابسط الحقائق معلومة ضد هذا الخطأ، كالذي يشير اليه البعض6. كما وان تصورات العلماء إزاء العالم الخارجي متباينة، ولا وجود لموضوعية مطلقة، فقد يكون الاختيار وسط النظريات المتنافسة قائماً بعض الشيء على الرغبات الذاتية، حتى أن فيلسوف العلم فيرابند يبالغ في ذلك فيقول: >ما يبقى بعد اقصاء امكانية المقارنة منطقياً بين النظريات.. هو الاحكام الجمالية، احكام الذوق، الاحكام المسبقة الميتافيزيقية، والرغبات الدينية. وباختصار إن ما يبقى بعد ذلك هو رغباتنا الذاتية<7.. ويشاطره في ذلك الفلكي البريطاني فريد هويل: إن لمن الغريب حقاً ان في الوقت الذي يطالب فيه معظم العلماء بتجنب الدين – كما ظنن – لكنه في حقيقة الأمر يهيمن على أفكارهم أكثر مما يهيمن على أفكار رجال الدين8.

كما قد تحصل حالات مما يعرف بالتعصب العلمي، ومن ذلك انه مرت خمسون سنة دون تقبل الكيميائيين للآراء الاساسية التي بنيت عليها النظرية الذرية بفعل التعصب الفكري بداية القرن التاسع عشر9. ومثل ذلك ما حصل في رفض الانجليزلأي نظرية تخالف مذهب نيوتن في الضوء واتهامها بتهم متعصبة باعتباره منهم. فقد قوبل يونغ في اثباته لموجية الضوء بالسخرية والاستنكار باعتباره تجرأ على معارضة نظرية نيوتن الجسيمية. وكانت المؤسسة العلمية في بريطانيا تنظر الى اي معارضة لافكار نيوتن بأنها >هرطقة تقريباً، وبالقطع عمل غير وطني<10. وقد كتب الهاوي العلمي السياسي البريطاني هنري بروغام في مجلة ايدنبرغ (عام 1803) بان ورقة يونغ لا تستحق شيئاً، ونحن نريد ان نرفع صوتنا استنكاراً لهذه البدعة التي لا يمكن الا ان تعيق تقدم العلم وتبعث كل تلك الاشباح الوحشية للتهيؤات التي طردها نيوتن من معبد العلم11. وعلى نفس الشاكلة ظهر شعور وطني بريطاني وراء رفض نظرية التضخم الكوني لجوث12.

وكل ذلك يعتبر من السنن الانسانية التي تنشط فيها القبليات غير المنضبطة لتحديد النتائج المعرفية، سواء في الفهم او العلم او سائر شؤون الحياة.

خامساً:

من السنن الواقعية ما يميل اليه الانسان من تفسير الاشياء وتوقع حدوثها وفق الخبرات المشابهة السابقة او الميل الى التعميم في الاحكام نتيجة لحاظ عدد من القرائن هنا وهناك من دون ضوابط موضوعية.

فهي العادة النفسية التي تؤثر فينا.. لكنها قد تُتخذ قاعدة منهجية للتفسير. فكثير من الاحيان يراد من النتاج المعرفي العادي والعلمي أن يكون على شاكلة ما نألفه من الاشياء الحسية. فقد يتعين تفسير ظاهرة جديدة وفقاً لظاهرة معلومة مشابهة لها. وتشهد حياتنا اليومية الكثير من هذا التفسير والاستدلال، يضاف إلى أنه مستخدم في الدوائر العلمية، فقد أُعتمد عليه في العديد من الإكتشافات والنظريات والتفاسير، لا سيما تلك التي تجري وفق المألوف من الظواهر، مثل تفسير الحركة الجزيئية للغازات بحركة كرات البليارد العشوائية، أو كما يُذكر أنه لا فرق بين تقافز كرة الطاولة وشروح الفيزياء الكمية13. وهناك جملة شهيرة للمؤرخ العلمي مايكل كون، إذ يقول: ‹‹انك لن ترى شيئاً ما لم تصل إلى التشبيه الصحيح الذي يجعلك تدركه››14.

ويميل عدد من المفكرين الى التعميم كقواعد اجرائية رغم ضيق أفق ما يستندون اليه من شواهد. ومن ذلك تفسير حركة الانسان وفلسفة التاريخ والعلاقات الاجتماعية وفقاً لعوامل اساسية محدودة، ومنها نظريات العامل الواحد، مثل تفاسير العامل الاقتصادي والعرقي والجغرافي والتحليل النفسي اللاشعوري.. الخ. وقد امتدت مثل هذه التفاسير الاختزالية الى الساحة العلمية، من قبيل تفسير علم البايولوجيا بردّه الى قوانين الفيزياء والكيمياء فحسب. ومنهم من عمم الفيزياء على جميع الظواهر الكونية والحياتية والعقلية، كالذي عليه الرياضي البريطاني روجر بنروز.

ويجري مثل هذا الحال في الفهم عادة، كما هو حال الاستدلال على القياس عامة من خلال بعض حالات القياس المنصوص فيها، كالذي نظّر اليه الشافعي. ومثل ذلك الطريقة التي اتبعها الفقهاء في تعميم الاحكام الدينية على مختلف الاحوال والظروف، وكان من بين القواعد المقننة بهذا الصدد قاعدة (العبرة في عموم اللفظ لا في خصوص السبب).

سادساً:

من السنن ايضاً ارتباط العلم بالواقع، اذ يتخذ صورة جدلية كالذي يحصل في حالة التأثير المتبادل بين الفهم الديني والواقع، فاحدهما يؤثر في الاخر، وان التغير في احدهما يبعث على التغير في الثاني. فواضح ان تغيرات العلم وتطوراته قد ادت الى تغيير الواقع كالذي يشهده عصرنا بوضوح، لكن في القبال فان تغير الواقع يبعث على تطور العلم ويغير من مفاهيمه ونظرياته. فالامراض الجديدة والتقلبات المناخية والتغيرات الفلكية المختلفة، كذلك التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، كلها كان لها الاثر الواضح في التقدم العلمي.

بل يمكن القول ان هناك علاقة ثلاثية التأثير لكل من الواقع والعلم والفهم، فكل من هذه العناصر له تأثيره في البقية.

واذا كان للواقع اثره الدائم على كل من العلم والفهم، فان تأثير الفهم على العلم والواقع كان واضحاً عبر الالف السنين، ولم يتغير الحال حتى انفصل العلم كلياً عن الفهم شيئاً فشيئاً. ففي عصر النهضة الغربية ان ما طرحه كوبرنيك حول حركة الارض قد أسفر بالنتيجة الى ان يكون له اثر واضح في الفهم الديني، ومن ثم اخذ العلم يؤثر في مجالات اخرى للفهم، كالذي يتعلق بعمر الكون والأرض وكيفية خلق الإنسان ونشوئه وما إلى ذلك. ومن ثم زاد تأثير العلم في الفهم كما يتمثل لدى الكنيسة شيئاً فشيئاً، وأخذ يغير من مجرى الحياة بجميع أبعادها الفكرية والاجتماعية والتكنلوجية، ومن ذلك ما ظهر من تأثير على المسيحيين الذين اضطروا إلى مطالبة الكنيسة بأن تمتثل لروح العصر الجديدة وما تتطلبه من تغيرات فكرية واجتماعية15. وقد اصبح التأثير الحديث للعلم هو السائد وفق محاولات عدم توفير الفرص لان يكون هناك إله للثغرات. وقد امتد تأثير العلم على الفهم بتسديد الفجوات التي يحفل بها الدين.

وعلى صعيد العالم الاسلامي فان الاثر العلمي في الفهم بدا واضحاً ليس فقط بما سبق عرضه فيما يخص مسألة ثبات الارض وسكونها وعمر الكون والانسان وما الى ذلك، بل ظهر الاثر ايضاً في التفاسير العلمية للقرآن بفضل التغير العلميوالواقع، ولولا هذا التغير ما شهدنا مثل هذه الكثافة من التفاسير كتلك المطلق عليها بالتفسير العلمي والاعجازي للقرآن وحتى الحديث.

 

1نذكر بهذا الصدد ما يقوله المفكر محمد باقر الصدر حول حال الحوزة في النجف اثناء محاضرتين له حول المحنة: »لا بد لنا ان نتحرر من النزعة الاستصحابية من نزعة التمسك بما كان حرفيا بالنسبة الى كل أساليب العمل هذه النزعة التي تبلغ القمة عند بعضنا. حتى ان كتابا دراسيا مثلا - امثل بابسط الامثلة - إذا اريد تغييره الى كتاب دراسي اخر أفضل منه، حينئذ تقف هذه النزعة الاستصحابية في مقابل ذلك. إذا اريد تغيير كتاب بكتاب اخر في مجال التدريس - وهذا اضئل مظاهر التغيير - حينئذ يقال: لا ليس الامر هكذا لابد من الوقوف، لابد من الثبات والاستمرار على نفس الكتاب الذي كان يدرس فيه الشيخ الانصاري رضوان الله عليه، او المحقق القمي رضوان الله عليه. هذه النزعة الاستصحابية التي تجعلنا دائما نعيش مع امة قد مضى وقتها، مع امة قد ماتت وانتهت بظروفها وملابساتها، لاننا نعيش بأساليب كانت منسجمة مع امة لم يبق منها احد، وقد انتهت وحدثت امة اخرى ذات أفكار اخرى، ذات اتجاهات اخرى، ذات ظروف وملابسات اخرى، فحينئذ من الطبيعي ان لا نوفق في العمل لاننا نتعامل مع امة ماتت، والامة الحية لا نتعامل معها، فمهما يكن لنا من تاثير سوف يكون هذا التاثير سلبيا، لان موضوع العمل غير موجود في الخارج، موضوع العمل ميت، وما هو الموجود في الخارج لا نتعامل معه.. (هذه مقتبسات مما جاء في المحاضرة الثانية من المحنة، لاحظ كتاب المحنة، ص 78ـ 85.).

2تاريخالمذاهبالإسلامية،ص355.

3تاريخالمذاهبالإسلامية،ص428.

4الشاطبي: الموافقات،ج2،ص307. والاعتصام،ج2،ص320.

5مطهري: الإجتهادفيالإسلام،دارالتعارفـدارالرسولالأكرم،ص31.

6نظرية الفوضى، ص54.

7 نظريات العلم، ص138.

8 التدبير الالهي، ص251.

9 مواقف حاسمة في تاريخ العلم، ص277.

10 البحث عن قطة شرودنجر، ص30.

11 مع القفزة الكمومية، ص48ـ49.

12 اسرع من سرعة الضوء، ص158ـ159.

13 جايمس غليك: نظرية الفوضى، ترجمة أحمد مغربي، دار الساقي، الطبعة الأولى، 2008م، ص21، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.

14 نظرية الفوضى، ص309.

15 تكوين العقل الحديث، ج2، ص215.

 

 

comments powered by Disqus