-
ع
+

تقدم العلم ودوران الفهم

يحيى محمد

ان نظم العلم هي كنظم الفهم؛ فيها ما يدل على الاختلاف تارة، وكذا القطيعة تارة ثانية، وان العلاقة فيما بينها قد جرت طبقاً للمراحل والتطورات – أحياناً - مع فوارق بينهما. فالنظم المتقاطعة في الفهم ظلت تدور على نفسها خلافاً للعلم الذي اتخذ مساراً خطياً متقدماً؛ منذ ان تخلى عن النظام القديم، اذ جاء بعده النظام الاجرائي الاستقرائي ومن ثم النظام الافتراضي الاستنباطي، وهو السائد حالياً، واخيراً النظام التخميني الميتافيزيائي. واذا ما كانت هناك بقايا للنظام القديم كما تتمثل بالتنجيم فإن هذه البقايا أصبحت خارجة عن إطار ما يسمى بالعلم ولم يعترف بها اطلاقاً رغم عدم دراستها جدياً من الناحية العلمية. وكانت هذه النقطة بالذات موضع انتقاد البعض لطريقة العلماء مثل فيلسوف العلم فيرابند وغيره ممن يمارس وسائل أخرى غير علمية، كالتي نقلها الفيزيائي المعروف ستيفن واينبرغ. فمثلاً عندما كتب فيليب اندرسون باستخفاف عن الاعتقاد باستشفاف الغيب والتحريك عن بعد؛ تعرّض إلى نقد لاذع من أحد زملائه في برنستون، وهو روبرت جان الذي كان يقوم بتجارب سماها (ظواهر الوعي الشاذة)، فكان جان يتذمر قائلاً: ‹‹رغم ان مكتب اندرسون لا يبعد سوى بضع مئات من الامتار عن مكتبي، فهو لم يزر مختبرنا ولم يناقش معي مباشرة أياً من معتقداته، حتى ليبدو أنه لم يقرأ بعناية أياً من مقالاتنا التقنية››. واضاف واينبرغ بأنه قال في إحدى المقابلات التلفزيونية: ان من يعتقد بالتنجيم عليه ان يدير ظهره للعلم الحديث كله. وبعد هذه المقابلة وصلته رسالة من كيميائي ومهندس تعدين سابق في نيوجرسي يلومه اشد اللوم لكونه لم يتحر شخصياً صحة التنجيم. وقد كان رد واينبرغ على كل ذلك هو قوله: اننا نفهم ما يكفي لمعرفة ان عالمنا ليس فيه مكان للايحاء عن بعد أو للتنجيم، إذ ما هي الإشارة الفيزيائية التي يمكن ان تصدر عن ادمغتنا فتحرك اشياء بعيدة ودون ان يكون لها تأثير على أي من أجهزتنا؟!

وحقيقة أنه إذا كان العلم قد تجاهل التنجيم مثل تجاهله للفلسفة، فإنه قد وضع بديلاً لهما هو النظام الثالث التخميني الاسطوري أو الميتافيزيائي. فهو في حقيقته لا يختلف عن التنجيم أو الفلسفة في أنه يرتكز على قضايا غير راجعة للاختبارات العلمية أو تأييداتها، وكل ما يختلف فيه هو ان اصحابه قد تشربوا بالممارسة العلمية الفيزيائية وانطلقوا بها إلى ابعد مدى ممكن، ولادنى سبب. وفي بعض الدراسات اعتبرناه يمارس قراءة استبطانية في قبال القراءتين الاستظهارية والتأويلية، كما اعتبرناه شبيهاً بالنظام القديم نسبياً لإشتراكهما في الطابع الميتافيزيقي والتجريدي، وإن اختلفت قيمتهما المعرفية، فالنظام القديم توكيدي دوغمائي خلافاً للنظام الميتافيزيائي الذي يتخذ التخمين شعاراً له. كما ان النظام الأخير ما هو إلا تطوير للنظام الثاني، وبالتالي فله جذور علمية حديثة خلافاً للنظام القديم. لكن كل ذلك لا يمنع من ان طريقته قد تصب في مرمى هذا الأخير.

وهنا نتساءل: إذا كان العلم قد تخلص من التنجيم، فهل هناك ما تم التخلص منه في الفهم؟ فالعلم قد استبدل التنجيم، بل والنظام القديم بنظام آخر يضارعه ويناظره وهو النظام الثالث، فهل حصل ما يشابه هذا الحال في الفهم؟

حقيقة اننا لا نجد ما تم التخلص منه في نظم الفهم ومناهجه، فهي قد بقيت على ما هي عليه دون تغيير جذري، وبالتالي أصبحت خاصية الفهم من هذه الناحية خاصية دورانية، فالتطورات التي حصلت فيه لم تلغِ القديم منه غالباً، انما تم الابقاء على القديم رغم الانشقاقات التي ظهرت لدى بعض التيارات المتحولة عنه، وأحياناً حصل بعض التطور من مرحلة إلى أخرى ضمن ذات الاتجاه دون العودة إلى ما كان عليه الاصل، أو ان الاصل أصبح مآله الضعف والاضمحلال. ومن ذلك ما ظهر في التطورات الداخلية للمذاهب والمناهج، كتطورات الدائرة البيانية من عدم التنظير إلى التنظير. ففي البداية لم يكن لطريقة السلف تنظير ممذهب على صعيد التحليل الإبستيمي المستقل من الناحية الكلية في الأصول والعقائد، وهي بالتالي ليست دائرة منظّرة معرفياً كما هي الحال مع دائرة العقل المنافسة، لكنها تحولت فيما بعد إلى دائرة منظّرة، لا سيما لدى المدرسة التيمية التي سعت إلى تأصيل حركة السلف الأولى من جديد، وإن بآليات لم تكن مقبولة لدى السلف انفسهم. ومثل ذلك ما حصل من تطور داخل المذهب الاخباري لدى الشيعة، إذ كان القدماء يتبنون هذا المذهب دون تنظير، إلا أنه وبفعل تطورات الحركة العقلية تحولت الاخبارية إلى مذهب منظّر لمقارعة هذه الحركة.

كما ظهرت تطورات عديدة ضمن الدائرة العقلية، ومن بينها انشقاق النزعة الاشعرية عن الاعتزالية، ومن ثم التطور داخل ذات المذهب الاشعري فأخذ يميل إلى الاتجاه العقلي أكثر فاكثر مع توالي الزمن باضطراد. فقد نشأ هذا المذهب لغرض الدفاع عن منطق البيان والسلف قبال التشريع العقلي، لكن تطورات المذهب جعلته يعكس المسألة، فاصبح الهدف هو الدفاع عن منطق العقل قبال البيان. على ذلك صار هناك خطان متمايزان للمذهب يتمثل أحدهما بالمتقدمين الذين تأثروا بالإتجاه السلفي، كما هو الحال مع الشيخين الأشعري والباقلاني، ويعود الآخر إلى المتأخرين الذين تأثروا بالتيارات العقلية، كما يظهر عند الجويني وإبن فورك وفخر الدين الرازي وغيرهم. وقد اختلف الفريقان حول الكثير من القضايا التي لها علاقة بفهم النص، وأبرزها تلك المتعلقة بالأوصاف والأسماء الإلهية، كما هي مذكورة في القرآن والحديث. فبينما أجرى الفريق الأول تلك الأوصاف على حالها مانعاً بذلك التأويل، اضطر الفريق الثاني إلى تأويلها تماشياً مع نزعته العقلية. وبذلك تحول البيان مع المتأخرين إلى ضده، اي الى اعتباره متشابهاً، الامر الذي استدعى تأويله لصالح الاحكام العقلية. كما ظهر تطور اخر ضمن هذا المذهب على صعيد آليات الاستدلال الابستمولوجية. فكان الباقلاني مؤسساً لطريقة المتقدمين للمذهب الاشعري استناداً الى وضعه لقاعدة (بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول)، وهي القاعدة التي تجعل من الادلة ذاتها واجبة على الصعيدين المعرفي والديني، لانها تفرض على المستدل أن يذعن وينصاع إلى الأدلة لما تفضي إليه من نتائج محددة، وكتكليف يجب الإعتقاد به مثلما يجب الإعتقاد بالنتائج المتمخضة عنها. ثم تطور الحال فجاء الغزالي ليتزعم طريقة المتأخرين في ادخاله لعلم المنطق قبال منهج الباقلاني الانف الذكر. وبحسب الطريقة الجديدة للغزالي فانه لا مبرر لقاعدة إبطال المدلول ببطلان الدليل، أو أن بطلان الدليل لا يؤذن ببطلان المدلول، فمن الممكن إثبات المدلول بدليل آخر غيره، وكذا من الممكن أن يكون المدلول غير خاضع للدليل أصلاً. وكان للغزالي عبارة شهيرة يقول فيها: بأن «من ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيّق رحمة الله الواسعة».

لكن كل ذلك لم يحل دون بقاء الأفكار النظرية كما هي مثلما كانت واردة قديماً، وان النزاع والصراع الكلامي والعقائدي ظل هو نفسه لم يتغير، فمثلما نجد ان هناك من يدافع عن النزعة البيانية السلفية هناك من يقابلها بالدفاع عن منطق العقل والتأويل. وبالتالي فقد أخذ تطور الفهم في الدوائر منحى وصل فيه إلى النهاية والانغلاق.

كذلك فإنه على الصعيد الفقهي هناك ركام من الآراء الفقهية المتضاربة ظلت باقية منذ قرون ومازال الاجترار يلوحها حتى يومنا هذا، فهي على تضاربها ظلت كما هي لم يبدُ عليها علائم التغيير إلا عند اقتضاء الحاجة الزمنية وضغوطها الفاعلة. وانه في حالات أخرى اتخذ التطور صورة متقدمة كالذي يلاحظ لدى الدائرة الاصولية من الفقه.

وعلى العموم بقيت النظم المعرفية ودوائرها المنهجية هي ذاتها دون تغيير، فلا فرق بين القديم منها والحديث. لذلك يبدو على الفهم حيثية الثبات والدوران على نفسه، فما يظهر من فهم جديد أو حديث ليس بامكانه الغاء القديم، وغالباً ما لا يعتد بالمعاصر قدر الاعتداد بالقديم، مما يجعل الفهم ثابتاً ودائراً على نفسه لا سيما وهو يشهد التعارض المستقطب، خاصة لدى مجراه الرئيسي، كالذي يتمثل بالمذهبين المتعارضين للسنة والشيعة في فهمهما للاصول الدينية. ففي الفهم الديني يُعتمد على الفهم القديم كدلالة على الاصالة والقوة المقربة للحقيقة الدينية عادة، في حين يجري العكس – نسبياً - لدى العلم الطبيعي، فلو اننا استثنينا النظام الثالث الميتافيزيائي لقلنا بأن كل ما هو جديد في العلم يصبح مورداً للاعتماد مقارنة بالقديم.

ففي الفهم لا مجال للرؤية التاريخانية طالما ان لنظريات الفهم القديمة تأثيرها ومنافستها لكل جديد ومعاصر. وهو ما لا نجده في العلم، فالتطور العلمي لا يعير اهمية للنظريات القديمة، وتبقى فائدتها تاريخية متروكة لاهتمام فلاسفة العلم. وبالتالي فلا دور لها في المنافسة الجادة مع النظريات الجديدة السائدة. لذلك فالمنافسة العلمية تظهر لدى النظريات الحديثة والمعاصرة دون القديمة منها، إذا ما حلت غيرها محلها، فنجد التنافس بين نظرية أينشتاين بعد ان حلت محل نظرية نيوتن وغيرها في قبال نظرية ميكانيكا الكوانتم. في حين لا توجد منافسة بين الاخيرة ونظرية نيوتن، ولا بين هذه ونظرية أينشتاين التي حلت محلها، وان كان من الممكن للنظريات القديمة ان تعود بشكل ما من الاشكال المتطورة.

ولأن العلم يتقدم خطياً لذلك نجد الاهتمام بقياداته الحية أكثر من الاموات، وكشاهد على ذلك ما رآه بعض الفيزيائيين من ان سبب الايمان بالنظرية الموجية دون الجسيمية يعود إلى ان الذين يؤمنون بالنظرية الجسيمية قد ماتوا. وهو يذكّر بما سبق اليه ماكس بلانك من تعليق وهو في معرض خلافه مع بولتزمان حول مبدأ تزايد الانتروبيا، إذ قال: ‹‹ان الحقيقة العلمية الجديدة لا تنتصر نتيجة لاقناع خصومها وجعلهم يبصرون نور الحقيقة، بل لأن خصومها يموتون اخيراً ويظهر مكانهم جيل جديد يألف هذه الحقيقة››.

واذا كانت الحقيقة تموت بموت قادتها في العلم؛ فإن عكس هذا الحال يجري في الفهم. ففي هذا الأخير يُمجد الاموات على حساب الاحياء، وكثيراً ما يوصف الاموات بانهم يحملون الحقيقة التامة دون غيرهم من الاحياء، وبالتالي فليس لهؤلاء الاخيرين من شرف سوى اتباع ما عليه سلفهم. وكل ذلك يعود إلى ان الفهم دوراني بخلاف العلم الذي يتقدم خطياً إلى حد كبير.

وقد ينعكس هذا التفسير فتكون علة الفهم الدوراني عائدة إلى الإتّباع وتمجيد الموتى وليس العكس، على صيغة الحديث النبوي: (خير القرون قرني، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه)، أو بلفظ البخاري ومسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). وعلى هذه الشاكلة تصبح علة العلم الخطي عائدة إلى تمجيد الاحياء والاهتمام بهم دون الموتى. وحقيقة ان العملية لا تخلو من الدور كالبيضة والدجاجة، وان كنّا نعتقد بأن الاصل في التفسير هو الأول لا هذا الأخير، لاعتبارات تتعلق بذاتية الفهم والعلم وفقاً لمحدودية انكشاف النص واتساع افاق العلم في الكون.

لا شك ان ما يحصل في الفهم من ثبات الدوائر والمناهج القديمة، أو ما نطلق عليه دوران الفهم، لا يلغي ظهور اتجاهات جديدة أو حديثة تضاف إلى المذاهب والنظريات، ومثلها المناهج والنظم القديمة. فقد يكون الغرض من الاتجاهات الجديدة هو ازاحة ما وصلنا من تراث قديم، وهي بذلك تقدم رؤية مختلفة جذرياً عن الرؤى التراثية للفهم، وتظل المنافسة قائمة بين القديم والجديد، أو التراث والحداثة. كما قد يكون الغرض هو التجديد وتطوير التراث ليتفق مع مقتضيات الحداثة والحاجات العصرية. واليوم نشهد مساحة واسعة لكلا هذين النوعين من الفهم ازاء ما وصلنا من فهم تراثي ثابت لا يتزحزح.

ومع ان ما يظهر لدى العلم هو الطابع التطوري والتقدم الخطي كما يبدو اثره على مستوى النظريات، فبعضها يسعى لدفع البعض الآخر عند التقاطع بينها، كالاختلاف بين النموذجين الخاصين بالفيزياء النيوتنية والأينشتاينية، إلا ان ذلك لا يتنافى مع ما يحصل أحياناً من تعارض محايث طويل المدى وكأنه ثابت لا يتغير، كالنموذج الذي نشهده إلى اليوم بين النسبية والكوانتم طوال ما يقارب القرن من الزمان.

وقد لا يتميز حال التعارض - هنا - بين النظم والنظريات العلمية. فحول النظم ان العلماء وان لم يتفقوا على قبول الجديدة منها، ومن ذلك ان بعضهم لم يتقبل إلا النظام الأول الإجرائي، لكن تطورات الأمور جعلت الحال يصل إلى ما يشبه الاجماع أو (الإعتراف الجمعي) بقبول النظام الثاني الإفتراضي، لا سيما بعد اضمحلال النظام الأول وانتهائه تقريباً. أما النظام الثالث الميتافيزيائي فما زال الخلاف حوله جار لمعارضته للنظام الثاني رغم تأسسه عليه. ويبدو أنه سيلاقي الإعتراف الجمعي بعد ان ينتهي الثاني بمثل ما آل اليه الأول.

كذلك يقال حول النظريات وهي أنه على الرغم من حصول تعارضات محايثة فيما بينها إلا أنها تميل إلى الحل والترجيح عند توفر الفرص الداعية لذلك، ومن ثم قد يحصل بالتدريج ما يشبه الاجماع أو الإعتراف الجمعي لدى المؤسسة العلمية كتلك التي تناولها فيلسوف العلم توماس كون في (بنية الثورات العلمية). فكل شيء في العلم خاضع لمنطق افق التوقع والانتظار.

ويعد هذا الحال مخالفاً لما عليه الفهم. فمن جانب يظل الفهم بنظر معتنقيه ثابتاً يصعب تحويله وتغييره، باعتباره ينتمي إلى المقدس، ومن ثم فهو لا يخضع لأفق التوقع والانتظار لدى اصحابه. فعادة ما يرى المتنازعون حول الفهم انهم يعكسون الرؤية الدينية كما هي، وهي مقدسة، والمقدس لا يخضع للتجربة والفحص والاختبار، ولا للتوقع والانتظار. فالفهم هنا مأخوذ على نحو التطابق مع النص المقدس، لذا كان مقدساً مثله، أو هو منظور اليه بمثل ما ينظر إلى النص ذاته دون فرق وتمايز. لهذا يختلف الفهم عن العلم، لكون الأخير يتعلق بالمدنس لا المقدس، وبالتالي يخضعه اصحابه إلى شتى الاختبار والفحص والانتظار.

كما من جانب آخر، ليس في الفهم المختلف حوله ما يمكن ان يتطور إلى ما يشبه الاجماع أو الإعتراف الجمعي. فالتنازع باق كما هو، بل أنه يتوسع باضطراد دون توقف ولا حدود. وحتى القضايا المتفق عليها أخذت اليوم تجد لها صيغاً جديدة من الاختلاف والنزاع.

وبالتالي فسواء من حيث النظم أو النظريات الكبرى؛ نجد الفهم يميل – عادة - إلى الثبات والدوران على نفسه، مع ابقاء التعارضات كما هي دون تقدم ملحوظ يذكر. فليس في الفهم سلطة للإعتراف الجمعي وتولي افق التوقع والانتظار ذاتياً. فالتعارضات المستقطبة المحايثة مع غياب الإعتراف الجمعي؛ كل ذلك يجعل من الفهم يميل إلى الثبات والدوران دون تقدم متميز كالذي يشهده العلم. فما يحصل من تقدم أحياناً يتصف بالقلة والضيق، وغالباً ما يكون مرهوناً بضغط الواقع وحاجاته الزمنية.

ان ميزة النظم الدورانية هي ان بعضها ليس بامكانه زحزحة البعض الآخر وإبعاده، فهي باقية ثابتة لا تتبدل عبر الزمن، انما تتعايش فيما بينها رغم تعارضاتها، خلافاً للنظم الخطية المتقدمة، إذ أنها أما ان تعمل على ازاحة بعضها للبعض الآخر، أو ان بعضها يتقدم في ارتياد مناطق جديدة يتجنبها الآخر فيبدو عليه الاضمحلال حتى الانتهاء. وبالنتيجة يظهر الاثر التطوري لدى هذه النظم. فمثلاً يلاحظ في النظام الأول للعلم أنه استطاع ان يقضي على النظام القديم، كما ان النظام الثاني استطاع ان يجد لنفسه موطئ قدم في مواقع لم يرد النظام الأول اقتحامها. يضاف إلى ان النظام الثالث قام بتوسيع دائرة المساحة التي لم يرد النظام الثاني ارتيادها، فهو قائم على الإفتراضات التخمينية مما لا تقبلها النظم التي سبقته، بل أنه حلّ بديلاً جديداً مناقضاً للنظام الأول، وله شيء من الشبه بالنظام القديم. وهو امر لا نجده لدى نظم الفهم، فقد نجد في نظام ما ضعفاً لدى بعض المذاهب أو المناطق الجغرافية أو اللحظات التاريخية، فهو ضعف نسبي يقابله قوة لدى مذاهب ومناطق ولحظات أخرى. مما يعني ان دوائر النظم والمناهج ظلت ثابتة لم تتغير رغم ما قد اصابها من فتور هنا أو هناك، تاريخياً وجغرافياً، كالذي حصل مع المنهج الفلسفي للفهم، فرغم أنه قد تقلص كثيراً من بعد الغزالي لدى اماكن عديدة، لكنه كان نشطاً لدى اماكن أخرى، كبلاد فارس.

والنتيجة هي ان للعلم ميلاً للتقدم، وهو اليوم يكسب حظاً من العالمية لا يدانيه غيره من المعارف كالدين والفلسفة والسحر والتنجيم وغيرها. ورغم بعض الانتقادات التي تلوحه مثل تلك التي أقدم عليها فيرابند في كتابه (ضد المنهج) وسائر كتاباته الأخرى إلا أنه ما زال يمثل سيد المعارف، وانه يكاد يحظى بإعتراف جمعي من طرف المشتغلين فيه سوى القليل الذين يبرز لديهم شيء من التحفظ ازاء ما يستجد من مناهج أو نظريات علمية مثيرة وغير مألوفة وربما اسطورية. فأي نظرية جديدة قد تصادف حظاً من الإعتراف، وربما تتسع دائرة هذا الإعتراف شيئاً فشيئاً حتى يلوح الجميع كلاً أو غالباً. لكن يظل هناك شبه إعتراف جمعي بالحد الادنى من النظام والمنهج العلمي على صعيد ما يسمى تخوم العلم لا حوافه، خلافاً لما نجده في الفهم الذي يميل إلى الثبات والدوران وعدم وجود ما اسميناه (الإعتراف الجمعي) للحد الأدنى، إذ لا يوجد اجماع بشأن المناهج والنظم التي ينبغي اتباعها أو الثقة بها حتى في الاطر الضيقة من المذاهب. وبالتالي فإن نظم ومناهج الفهم تبقى تميل إلى التعايش دون ازاحة أو تبديل. فالنظم التي نراها اليوم هي نفسها التي كانت بالامس، أو ان تاريخها لم يطرأ عليه تغيير جذري بعد. وقد يؤثر المستقبل على وجودها، فليس بقاؤها بالامر الحتمي، وان كان حالها يميل إلى البقاء بغض النظر عن حجم ما تمتلكه من سيادة وسطوة.

وحديثاً ظهرت مناهج ونظم للفهم عديدة، وهي اتجاهات لم تستطع زحزحة ما ثبت من النظم والمناهج التراثية، لكنها تعد إضافة جديدة لم يعهده تراثنا المعرفي من قبل. وقد يأتي يوم يكون باستطاعتها ان تحقق شيئاً ملحوظاً من الزحزحة الفعلية، أو أنها تتراجع فتختفي.

مع هذا فنحن لا نتحدث عن نظريات الفهم، فلا شك ان منها ما بقي قروناً دون تغيير حاسم، وابرز النماذج في ذلك ما يتعلق بنظرية الامامة، وهي التي جعلت الفهم الديني ينقسم مذهبياً على نفسه إلى فرقتين رئيسيتين هما المذهب السني والشيعي. وفي القبال نجد نظريات للفهم قد ادى بها الأمر إلى الانتهاء والاندثار من دون عودة. كما ان منها ما ظهر واشتد وجوده بفضل تطورات الواقع وتأثير سنن الفهم على ذلك، وان هناك تطورات طرأت على بعض النظريات كتلك المتعلقة ضمن المذهب الاشعري، ومثلها ضمن المذاهب الفقهية والاصولية.

ويمكن ان نقدّر بأن النظريات التي تتعارض مع حقائق الواقع أو مصالحه تميل إلى الذبول ومآلها الانتهاء والنسيان. ومن أبرز مصاديق هذه السنة ما نشهده حول نظريات فهم النص القديمة المتعلقة بالعلوم الطبيعية، فلم يعد بالحسبان عودتها. مما يعني ان نظريات الفهم تحمل علامات التقدم والتطور، حتى على النحو السلبي، أي ما يتعلق بالكشف الواقعي لخطأ النظرية، كالذي يشير إليه فلاسفة العلم حول أهمية خيبة التوقع والانتظار، حيث تتجلى الفائدة من خلال ترك الفرضيات التي ينكشف بطلانها، ومن ثم متابعة البحث عبر فرضيات أخرى غيرها. فمثلاً أن هناك عدداً من الآراء القديمة لدى الإمامية الإثنى عشرية حول التصرف بالخمس، وقد كشف الزمن عن بطلانها، كالرأي القائل بوجوب دفن الخمس في باطن الأرض أو رميه في البحر أو ايداعه وحفظه لدى الثقات من واحد إلى آخر حتى ظهور المهدي. وقد استمر بقاء هذه الآراء، لا سيما الأخير، إلى ما يقارب تسعمائة سنة متواصلة، أي منذ بداية القرن الرابع وحتى القرن الثاني عشر الهجري، ولولا طول زمن غيبة الإمام المهدي لما تبينت قيمة هذه الآراء وفق ذات المتبنيات الشيعية. لكن ظهور بطلانها ووضوح كونها تفضي إلى تبديد الثروة واهدارها؛ ساعد على التقدم في التفكير، بمعنى أن خيبة الانتظار قد ساعدت الفكر الشيعي على أن يجد بدائل نظرية أخرى متماسكة.

وبحسب كارل بوبر فإن خيبة التوقع والانتظار تشبه «تجربة شخص أعمى يصطدم بحاجز فيعرف بذلك وجوده. وعندما نلاحظ أن فرضياتنا كانت خاطئة، عندئذ فقط ندخل في علاقة تواصلية مع (الواقع). إن تبين أخطاءنا هو التجربة الإيجابية التي نستخلصها من إحتكاكنا بالواقع». ومثل ذلك يشير الفيزيائي ريتشارد موريس من ان تبيان الخطأ في النظرية العلمية قد يكون في كثير من الأحيان مهماً جداً، فالتحقق من ان النظرية خاطئة يمد بالحافز على البحث عن نظريات جديدة، وفيه يتحقق التقدم.

مع هذا يظل الحال ثابتاً على صعيد المجرى الرئيسي لنظريات الفهم المتعارضة دون أي تقدم يذكر. واذا كان هناك شيء من التقدم فهو ينتمي إلى بعض مفاصل النسيج الداخلي لهذه النظريات، بمعنى ان كل نظرية كبرى ترد فيها أحياناً تطورات داخلية في بعض المواقع، وان بقيت مواقع أخرى ثابتة، كما ان بعضها قد يصيبها الاندثار والموت، لا سيما عندما تتعارض مع حقائق الواقع أو مصالحه؛ إذ يكون مصيرها الموت والنسيان، وكثيراً ما ينطبق هذا الحال على النظريات الفقهية، كتوزيع غنائم الحرب على المجاهدين وحكم رباط الخيل ومفهوم القوة كما كان يفهم قديماً، ومثل ذلك ما لدى الشيعة من حكم التصرف بدفن سهم الامام من الخمس أو التوصية به من ثقة إلى آخر حتى ظهور الامام المهدي، ومثله تحليل الانفال على الشيعة...الخ.

لقد سبق ان تساءلنا عما إذا كان العلم الفيزيائي متجهاً نحو الانتهاء، ومثل ذلك يمكن ان نطرح هذا التساؤل حول الفهم؟ فهل تناقصَ البحث العلمي اليوم، ومثله البحث الفهمي؟ أم هناك تطورات جديدة أو إعادة صياغة من جديد؟

نعتقد ان العلم متجه باضطراد نحو الفلسفة، فكلما تناقصَ كلما وجد له مخارج فلسفية اكثر، وهو ما يجعله غارقاً في الهرمنة يوماً بعد اخر. أما الفهم فطبيعته تميل إلى الهرمنة المفتوحة على الدوام بسعة النظريات كلما تقادم الزمن. فالعلم يتقلص بسيره الطولي فيلامس بذلك الفلسفة والميتافيزيقا، فيما يتوسع الفهم بانفتاحه على افق جديدة عبر مسيرة عرضية لا يعرف لها حدود.

لقد سبق للعلماء المسلمين ان ذكروا بأن بعض العلوم الاسلامية أصبحت محترقة بعد نضجها واكتمالها، كعلم الفقه والحديث. لكن مع هذا فإن علم الفقه المحترق وجد اليوم ابواباً جديدة للبحث وفقاً لمعايير لم يكن الاخذ بها في السابق سهلاً. والاهم من ذلك هو التفسير، فهو يتجدد يوماً بعد آخر، بل حتى الحديث أحياناً أخذ يتلبس بلباس التفسير، ويتجدد فهمه وفق المقتضيات العصرية والافاق العلمية.

على هذا فإن من مفارقات المقارنة بين العلم والفهم هو ما يلاحظ بأن تفاؤل الفيزيائيين بقرب نهاية علم الفيزياء لم يجد افقاً ايجابياً للانتظار بسبب تتابع التطورات الفيزيائية وانفتاحها على افاق هرمنوطيقية جديدة لا تعرف طبيعتها الحدود. ويأتي هذا التفاؤل للفيزيائيين على خلاف ما يجري الآن في الفهم الديني، فقد كان التصور القديم يرى أن الفهم قد تشكل ووصل إلى النهاية والإنسداد، ولا يحق لأي فهم جديد أن يولد. لكن العصر الحديث أبدى تطلعات كبيرة لأفهام جديدة بعد ان تبين بأن الافهام القديمة لم تصب كبد الحقيقة، أو أنها على الاقل أصبحت موضع استفهام كبير. بل يمكن القول ان عصراً جديداً للفهم قد ظهر، وهو يكشف عن بداية للفهم لا يعرف لها نهاية، رغم بقاء الفهم دائرياً دون تقدم ملحوظ سوى الاصطفافات الفسيفسائية. فكل فهم جديد لم يحل محل فهم قديم، بل يصطف معه كمعارض اضافي جديد.

وقد نتساءل عن علة ميل الفهم إلى الثبات والدوران دون العلم، فلماذا يميل العلم إلى التقدم والتطور، في حين يميل الفهم إلى الثبات والدوران؟ هل لان وقائع العلم غير محدودة، في حين ان ألفاظ النص محدودة، أم لسبب آخر يعود إلى الفهم؟

وكجواب نعتقد بأن الحال يتعلق بالإنفتاح والانغلاق على الواقع، فالمنظومات المغلقة تميل إلى الثبات والدوران، خلافاً للمنظومات المفتوحة. وحيث ان نظم الفهم، ومنها النظم الفلسفية والكلامية هي نظم مغلقة غير مفتوحة على الواقع في الغالب، لذا فإنها تميل إلى الثبات والدوران، خلافاً للعلم الذي تتصف نظمه وانساقه النظرية بالإنفتاح وكونها تتقبل الاختبار والتحقيق والمراجعة والتطوير غالباً. ومما يزيد في مشكلة الثبات تعقيداً هو ان نظم الفهم باعتبارها مغلقة وكون بعضها يستند إلى مصادر مقدسة فإنها تكون مسرحاً للتقليد والتوظيف الايديولوجي.

فنظم التراث، ومنها نظم الفلسفة وعلم الكلام وما يعتمد عليها، يغلب عليها الطرح المغلق، وهو ما يجعل الانساق المعرفية المستنبطة منها محكومة بالانغلاق عادة، لهذا يتصف الحوار فيما بينها بالصم، لقيامه على امور مجردة يصعب التحقيق فيها. فلو كان بالامكان التحقيق فيها عبر الواقع مثلاً؛ لكان حالها كحال العلم، ولكان قبولها رهين انسجامها مع الواقع، ورفضها رهين معارضتها له. فلكل من هذه النظم قبلياته الخاصة، وهي قبليات ليست مشتركة ولا منفتحة على الواقع، لذلك فإنها تتصف بالثبات والدوران، إلا بالقدر الذي يظهر الواقع موت بعض نظرياتها. ومع ذلك فإن من الممكن تفكيك المنظومات المغلقة وجعلها مفتوحة ضمن بعض الشروط، كالتي فصلنا الحديث عنها في (منطق فهم النص).

وعموماً يظهر هنا الفارق بين علاقة الفلسفة والكلام بالفهم الديني من جهة، وعلاقة العلوم الطبيعية والإنسانية به من جهة ثانية. فمع ان العلاقتين تعبران عن اعتبارين عارضين، لكن بينهما فارقاً شاسعاً، فقضايا الفلسفة والكلام هي قضايا دائرية لانغلاقها، وبالتالي تعاد المسائل وتتكرر من حيث الإجابة دون ان تفضي إلى تقدم واضح. فالجديد لا يحل محل القديم إلا بالقدر الذي تؤثر فيه الاعتبارات الواقعية، وكل ذلك له انعكاساته على الفهم الديني؛ مما يجعله يراوح محله دون تقدم. وعلى العكس من ذلك قضايا العلم الذي يخضع للتطور والتغيير، مما له انعكاساته على هذا الفهم. وهو ما يعني ان من الممكن ان يتقدم التحقيق في الفهم الديني عبر التطور العلمي، في حين لا يتحقق ذلك في حالة العلاقة مع المنظومات القبلية المجردة كالفلسفة والكلام وغيرهما. وكل ذلك يعود إلى ما للواقع من تأثير، فالتطور الحاصل في الفهم يدين إلى ما يحدث في الواقع ذاته، وان العلم كاشف عن الأخير، خلافاً للمنظومات المجردة والمغلقة كالفلسفة والكلام. واذا حللنا الأمر نجد ان قبليات العلم تختلف عن قبليات هذه المنظومات، فالاولى تمتاز بأن منها ما هو مشترك محايد كمبدأ الإستقراء، كما منها ما يعود إلى القبليات المفترضة للكشف عن الواقع، وان من مبادئ العلم التحقيق والمراجعة المستمرة، وكل ذلك لا يتوفر لدى المنظومات المشار اليها، وهو ما يجعل العلاقة بينهما وبين الفهم الديني علاقة مختلفة تماماً.

على ذلك نتساءل: هل يمكن خلق حالة من تطور الفهم (التحقيقي) كما يجري في الاطار العلمي، مع التغافل عن مشكلة (الإعتراف الجمعي) الذي يصعب تحقيقه في الفهم، حتى لدى دائرة المذهب الواحد؟

وبعبارة أخرى: هل هناك خطوات عملية يمكنها ان تدفع بالفهم (التحقيقي) نحو التقدم والتطور؟

لا شك ان الاجابة عن هذا السؤال تعتمد على الخيارات النظرية. ونعتقد ان أهم خطوات دفع الفهم نحو التقدم والتطور، هي ان تكون هناك معايير مناسبة نتقبل على ضوئها بعض الاصناف من النظم والمناهج دون البعض الآخر. فلا بد من وجود معيارين هامين، أحدهما يكفل الحفاظ على عدم تعدي دائرة الفهم للحدود الدينية اليقينة منطقياً. والآخر معني بالقدرة على التحقيق الخارجي للفهم، أي التحقيق من خلال اجراءات لا علاقة لها بالالفاظ المفصلة للنص، بل يساهم فيها الواقع مع جملة عناصر أخرى مهمة للتحقيق.

وينص المعيار الأول على ان ما يتطلبه الفهم هو الاتساق مع الحقائق الاصلية للخطاب الديني. إذ الصدام مع هذه الحقائق يفضي بالفهم إلى المعارضة مع يقين الدائرة الدينية، مما يجعل الفهم مقاطعاً للدين وبديلاً عنه. ولا نقصد باليقين – هنا - التطابق مع الحقيقة الخارجية، أو نفس الأمر بحسب تعبير الفلاسفة القدماء، بل ما يؤكده الدين ذاته. وبالتالي فالصدام مع الحقائق الاصلية للدين يؤكد الاسقاطات القسرية على حساب الدلالات المتواترة كما يثبتها النص ذاته. الأمر الذي يوجب التحفظ من النظم والمناهج المولدة للانساق غير المتسقة منطقياً مع تلك الحقائق.

اما المعيار الثاني فيتعلق بالقابلية على التحقيق الخارجي مما يجعل الفهم قابلاً للتقدم والتطور. وهو ينص على ضرورة التحفظ من النظم المغلقة المجردة التي لا تقبل التحقيق. أي ضرورة التحفظ من النظم الجاهزة والقائمة على القبليات الخاصة المتصفة بالانغلاق. إذ أي اعتماد على هذه النظم فإنه يفضي إلى جعل الفهم يدور دوراناً من غير تقدم.

لكن ما هي النظم التي يمكنها توفير هذا النمط من التقدم مع الحفاظ على الحقائق الاصلية للخطاب الديني؟ وما هي غيرها التي تعمل على الاخلال بهما معاً أو بواحد منهما فقط؟

نعتقد ان ابرز النظم التي تمتاز بالاخلال بالمعيارين معاً هو النظام الوجودي بفرعيه الفلسفي والعرفاني. في حين نجد لدى بعض دوائر النظام المعياري العقلي ما يحافظ على معيار الحقائق الاصلية، لكنه بعيد عن المعيار الثاني المتعلق بالتحقيق الخارجي، لكونه من النظم المغلقة المجردة. أما المنهج البياني فهو ايضاً يعتبر من النظم المحافظة على تلك الحقائق، كما أن بالامكان ان نفرض عليه التحقيق الخارجي المتعلق بتطوير الفهم. يبقى ان النظام الوحيد الذي ينفتح على المعيارين السابقين ويشجع عليهما هو النظام الواقعي؛ باعتباره يلتزم بالقبليات المشتركة كمعيار أساس للأخذ والرد، ويتقوم بالواقع كأساس اولي للفهم، وهو يقر ان الفهم يتغير بتغير الواقع ذاته.

وعموماً نجد ان أهم النظم المتسقة هي كل من المنهج البياني في النظام المعياري والنظام الواقعي. فالاول يرتكز على الظهور اللفظي، وهو في هذا الدور يناظر ما عليه النظام الإجرائي لدى العلم كما هو معلوم، أما الآخر فيرتكز على القبليات المشتركة مثل قاعدة الإستقراء، كما أنه يأخذ بالظهور اللفظي بعد ان يضيف اليه بعض العناصر وعلى رأسها ‹‹الواقع››. وهذا يعني ان أهم النظم التي ينبغي ممارسة البحث فيها، مع التحفظ من غيرها، هو المنهج البياني والنظام الواقعي الذي لا يلغي خصوصية ما يقوم به الأول، بل يضيف اليه ما لم يأخذه بعين الاعتبار. والحق أنه يحوّل الدلالة الظاهرة من دلالة مفصلة إلى دلالة مجملة تحتاج إلى عناصر أخرى كاشفة وعلى رأسها الواقع. فالبيان الذي تتحدث عنه الدائرة البيانية هو بيان مفصل، في حين أنه لدى النظام الواقعي بيان مجمل يحتاج إلى ما يحوله إلى تفصيل. ونعتقد ان خطأ المنهج البياني هو كونه لم يميز في صراعه مع الدوائر الأخرى بين المنظومات العقلية من جهة، والوجدان العقلي من جهة ثانية، وان رفض المنظومات العقلية بما فيها تلك التي تعود إلى النظام المعياري لا يعني إبطالاً للوجدان العقلي، كما لا يعني إبطالاً لحاكمية الواقع ودلالاته.



comments powered by Disqus