-
ع
+

ما الذي يمكن ان يقدمه الفهم الديني للعلم؟

يحيى محمد

إن أعظم ما يمكن ان يقدمه الفهم الديني للعلم هو التنبيه على جدوى التفكير القصدي. فمثلما لألفاظ النص مقاصد، فكذلك لظواهر الطبيعة مقاصد واغراض. وهو كلام يُعترض عليه بأنه ليس بالجديد، فمن المعلوم ان هذه الطريقة من التفكير سادت في الماضي البعيد، ومن ثم صارت من مخلفات العلم القديم، لهذا فهي من وجهة النظر الحديثة ليست مجدية ولا نافعة، لكونها مرتبطة بالتفكير الميتافيزيقي الذي يزعم العلم أنه تخلص منه، على الاقل في شكله القديم، ومنه الطرح الغائي والعلة الغائية.

فهذا ما يسلم به العلم منذ النهضة الحديثة وحتى يومنا هذا. وهو أمر معلوم..

لكن ما اود طرحه ليس إعادة النغمة القديمة، ولا تبرير ما موجود كتحصيل حاصل، بل التنبيه على الفائدة التي نجنيها من إفتراض مبدأ ذي خاصية تعمل على تطوير العلم ودفعه للامام مقارنة بإبطاله أو تعطيله.. وهو ما يتميز به مبدأ القصدية والغرض.

فالباحث العلمي وفقاً لبعض القرائن ذات الدلالة الخاصة يجد ما يدفعه ويشدّه إلى التفكير والتحقيق في الظاهرة الطبيعية عندما يفترض ان وراءها قصداً وغرضاً يحتاج إلى تحديد، فهو ليس بصدد تحصيل ما هو حاصل في سرد الفوائد في النظام الكوني المعلوم، مثل التذكير بفائدة الشمس والاوكسجين وثاني اوكسيد الكاربون وغيرها للحياة. فهذه أمور يكون الحديث فيها مما هو تحصيل حاصل ومعلوم من دون علاقة بالكشف العلمي. فما له علاقة بهذا الأخير هو التحقيق في قضايا لم تُكتشف بعد، كالذي يهيء له الإفتراض السابق.

تلك هي المهمة الملقاة على عاتق (الباحث القصدي)، فهو من يتشجع للتحقيق في معرفة ان كان وراء الظاهرة الطبيعية اغراض جديدة مجهولة أم لا؟. في حين لا يتكلف الباحث الآخر (الاتفاقي) عناء البحث عندما ينزع عليها الوجود الاتفاقي الصدفوي، فهو يدرك بأن الجهد الذي سيبذله للتفتيش عن علة وجودها بالشكل الذي عليه سوف يكون عبثاً بلا جدوى.

ويلاحظ أنه مثلما يقف المبدأ القصدي في الفهم الديني قبال المبدأ التعبدي، فكذا هو حاصل ما يناظره في العلم، فنحن نفترض ان المنهج الغرضي أو القصدي يقابله المنهج الاتفاقي الصدفوي. ويقف الأخير على شاكلة المبدأ التعبدي للفهم، فكلاهما يرى الأمور جارية بالنحو الذي عليه دون حاجة لإفتراضات أخرى تتعلق بالمقاصد والاغراض، ومن ثم لا فائدة من البحث والاستقصاء فيها.

فمثلاً تعد الأرض متطورة للغاية مقارنة بسائر كواكب مجموعتنا الشمسية، بفضل وجود الكائنات الحية والذكية، فهي توفر كل المستلزمات الحياتية وغيرها لهذه الكائنات؛ خلافاً لنظيراتها من الأجرام الأخرى. فهذه المسلمة التي يجمع عليها العلماء يمكن ان تدفع بالبحث للامام فيما لو افترضنا ان وجود الكواكب هو وجود ضروري لهذه الكائنات، شبيهاً بضرورة الشمس المعلومة. فوفقاً لهذا النمط من التفكير القصدي لا ينحصر تأثيرها بما تفعله من الجذب المعروف، بل يُفترض ان لها خدمات للحياة الارضية وفقاً لبعض خصائصها؛ من قبيل طبيعة مداراتها وأبعادها وكتلها وغازاتها ودرجات ضغطها وحرارتها وحقولها الكهرومغناطيسية... الخ.

في حين وفقاً للتفكير الصدفوي الاتفاقي فإن وجود الكواكب بهذا العدد من الكتل والأبعاد وما إلى ذلك من خصائص أخرى لا يتجاوز الاتفاق الصدفوي، وبالتالي ليس من المتوقع استفادة الأرض ومن عليها منها غير ذلك المتعلق بالجذب الثقالي.

لا ريب من ان مبررات المنهج القصدي للعلم ليست معنية بالبحثين الميتافيزيقي والديني للنزعة الغائية، فهي تجد جذورها ضمن المنطق الإستقرائي للعلم ذاته. فبين مدة وأخرى يكتشف لنا العلم شيئاً جديداً غير متوقع وله علاقة بالمبدأ القصدي عرضاً. وكان من بين الإكتشافات المرتبطة بمثالنا المذكور سلفاً ما يتعلق بفوائد القمر الكثيرة على الأرض والحياة والبشر غير ما هو معروف من الجذب الثقالي وظاهرة المد والجزر وما إليها. وظهر اليوم اعتقاد لدى الفلكيين بأن للقمر تأثيراً على استقرار دوران الأرض حول نفسها بلا انحراف.

إذاً يمكن طرح السؤال كالتالي: هل للكواكب وجود صدفوي اتفاقي في علاقتها مع الارض؟ أم ان لها فوائد هامة على الكائنات الحية، بل والذكية أيضاً، غير التوازن الثقالي المعروف؟

وبلا شك فإن هذه المسألة تمتلك جدوى للبحث لدى (الباحث القصدي)، فهي تدفع للتحقيق لمعرفة ان كانت هناك اغراض للكواكب يمكن ان تقدمه للحياة والأرض أم لا؟. فحتى لو لم يجنِ التحقيق شيئاً في هذه الحالة؛ فقد يقدم لنا معلومات جديدة حول هذه الاجرام. كما يقدم لنا فائدة اكيدة بما يُعرف بخيبة التوقع والانتظار، كالتي يشير إليها فلاسفة العلم من امثال كارل بوبر. إذ تتجلى الفائدة في هذه الخيبة – كما ذكرنا - بترك الفرضيات التي ينكشف بطلانها، ومن ثم متابعة البحث عبر فرضيات أخرى غيرها.

وفي القبال لا يجد (الباحث الاتفاقي) دوافع مشجعة للتحقيق في الموضوع جملة وتفصيلاً، طالما أنه ينكر الاغراض والمقاصد الكونية وفقاً لمنهج الاتفاق والصدفة. وهو من هذه الناحية يتصف بالكسل مقارنة بالأول المتصف بالنشاط. وهذا الحال ينطبق على الفهم الديني نسبياً، وهو ان الباحث القصدي في الفهم يتصف بالنشاط والمغامرة خلافاً لما يدعو إليه الباحث التعبدي من التحفظ في البحث بما يشبه الخمول.

على ذلك يمكن تقرير ان العلم الحالي القائم على فكرة الاتفاق والمصادفة هو علم كسول محافظ. ويمكن تصنيفه ضمن مرحلة يقدّر عمرها بما يقارب أربعة قرون خلت، أي منذ نشأته الحديثة وحتى يومنا الحالي. وليس ببعيد ان يتبدل الحال إلى مرحلة جديدة قادمة تتصف بالعلم النشط المغامر؛ بعد تناوله لجرعة من الدواء القصدي كالذي يقدمه له طبيب الفهم مجاناً!

 

comments powered by Disqus