-
ع
+

الفيزياء وعودة الفلسفة

يحيى محمد

ما من شك في أن الفيزياء قد وصلت اليوم الى مرحلة اختلط فيها العلم بالميتافيزيقا، الامر الذي يجعلها لا تصل إلى نهاية محتومة. فكل نهاية تعقبها بداية لبحث آخر، وهكذا.. والدليل على ذلك أنه لو تم معرفة قوانين الفيزياء التي تتحكم في الكون منذ الإنفجار العظيم فإن ذلك سيستدعي البحث عن القوانين أو الحالة التي كان عليها الكون قبل الإنفجار، رغم ان البعض تحدّث عن هذا الحال فعلاً كما رأينا، وكأنه تحدث عن حال قبل أوانه. ومثل هذا الأمر في ما يتعلق بإكتشاف الجسيمات الأساسية، فكل إكتشاف سيجر للبحث عما ورائه، وهكذا.. فكان من بين الاسئلة المطروحة التي لا تجد حلاً: لماذا كان هناك وجود للكون أصلاً؟ ولماذا كان بهذا الشكل دون شكل آخر ممكن؟

ومن وجهة نظر فلسفية فإن العديد من الفيزيائيين ينتقدون اطروحة نظرية كل شيء التي ظهرت مؤخراً، ومنهم الفيزيائي جون بارو الذي اعتبر هذه النظرية ‹‹بعيدة عن ان تكون كافية للكشف عن غوامض كون مثل كوننا.. إذ لا توجد معادلة تستطيع ان تقدم كل الحقيقة وكل انسجام وكل بساطة، فلن تستطيع نظرية لكل شيء ان تقدم بصيرة إجمالي ة أبداً››، فإن رؤيتنا لكل شيء ستجعلنا نرى لا شيء على الإطلاق.

وسبق للفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار ان اعتبر المفاهيم العلمية في ضوء تاريخيتها، وهذا التصور بحسب عالم النفس التكويني بياجيه كان تقليداً لما بدأه برانشفيك، لكن ما يميز الابستمولوجيا الباشلارية - كما يرى بياجيه - هي إعتبارها المعرفة العلمية لم ولن تكتمل أو تصل إلى حالة نهائية، فهي تصحيح لا ينقطع في مواجهة العقل للواقع، وبهذا الإطار تتكون المفاهيم العلمية.

كذلك فإن الفيزيائي الفيلسوف ديفيد بوم يعتبر أنه لا يوجد قانون نهائي ولا نظرية نهائية مطلقة، وعلى رأيه أنه كلما تمّ الكشف عن طبقة ضمنية فإنها تتحول بمرور الزمن إلى معرفة بينة في أذهاننا، مما يدعو الحاجة إلى التفتيش عن طبقات ضمنية أخرى تحت تلك الطبقة، وهكذا تظل العملية تواصلية مع الطبيعة.

لقد كانت الفلسفة تشكل أم العلوم قديماً، وأصبحت اليوم ليست فقط أساساً للعلوم، بل أنها تعيد أنفاسها من جديد عبر علم الفيزياء الذي وصل إلى حد الإعتراف بأنه يحمل نظريات غير قابلة للتحقيق، فيكفي للفكرة أن تُطرح دون صدام مع قوانين الفيزياء المعروفة ولو لم يكن عليها دليل. إذ ظهرت نظريات فيزيائية كثيرة لا تحمل الطابع الميتافيزيقي فحسب، بل هي أشبه بالأساطير الدينية. وهذه النتيجة تخالف مراحل تطور الفكر البشري كما حددها الفيلسوف الوضعي اوغست كونت.

هكذا اختلط العلم بالفلسفة وأصبح من الصعب معرفة حدود كل منهما. فبينما كان الفيلسوف الوضعي فتجنشتاين يقول: «أصبحت المهمة الوحيدة المتبقية أمام الفلسفة هي تحليل اللغة»؛ نجد أينشتاين يعاكسه في هذا التقدير ويقول بأن «الصعوبات الحالية للعلم تجبر الفيزيائي على الإلتصاق بالفلسفة بدرجة أكبر من الأجيال السابقة». ويزيد على ذلك مؤسس نظرية الكوانتم ماكس بلانك بجعله الميتافيزياء هدفاً للمشروع العلمي، وهو يقترب بذلك – مع شيء من التحفظ - مما كان يصرح به الفلاسفة القدماء من أن الغاية من العلوم الطبيعية هي الوصول إلى عالم الميتافيزيقا، فكما يقول: «مثلما أن وراء كل إحساس موضوعاً مادياً، فكذلك يوجد واقع ميتافيزيائي وراء كل ما تقدمه لنا التجربة على أنه واقعي.. إن عالم الميتافيزياء الواقعي ليس منطلقاً، بل هو الهدف لكل مشروع علمي، ومنارة تلوّح إلينا وتهدينا السبيل».

مع هذا لا يتساوى التفكيران العلمي والفلسفي في هذا المجال، فشرط النظام الميتافيزيائي للعلماء هو أنه قائم على الإعتبارات العلمية وليس بديلاً أو منفصلاً عنها. فبعد استغراق العلماء الطويل والعميق في العلم أصبحوا على مشارف البحث الفلسفي، ولم يكن بالإمكان التوقف أو تجاهل ذلك، طالما ان الأسئلة الكونية ترد على الدوام، الأمر الذي تحتاج فيه إلى شيء من الإجابة، ولو على نحو التخمين والحدس المسبوق بالنظر العلمي الطبيعي.

***

لقد كان الفلاسفة القدماء يطبقون قواعدهم النظرية على العلم الطبيعي، إذ الأخير هو نتاج الفلسفة وخاضع لإعتباراتها، رغم تأثر الفلاسفة بالشروط العلمية بشكل أو بآخر. أما اليوم فقد أصبح من الصعب قيام فلسفة للمعرفة والوجود دون ان تتأثر بالعلم. بل صار الأخير عدسة تنفذ من خلالها طبائع المعرفة والوجود معاً، وبدونه ليس من السهل تحديد شيء خارجي. لكن في القبال ان العلم غير كاف ما لم يؤطر بالفلسفة. فالعلاقة بينهما جدلية، أحدهما يؤثر في الآخر، ومن ثم فإنها تعبّر عن المزاوجة بين الإفتراضات الميتافيزيقية والنتائج العلمية، فهي بين بين، وقد يصح ان نطلق عليها (العلم الفرضي). فحتى التعميمات العلمية تندرج ضمن هذا الإطار، فلا هي محض علمية ولا أنها ميتافيزيقية، فهي جامعة للأمرين معاً.

على ذلك كان لا بد للمنظومات الفلسفية ذات الإطار الانطلوجي أن تزاوج بين اطروحاتها وما يقدّمه العلم من نتائج ونظريات. وأشير في هذا الإطار إلى أن ايران ربما تكون الدولة الوحيدة في العالم ترعى تدريس النظام الفلسفي القديم بإيمان عميق، كالذي يتمثل بمدرسة صدر المتألهين الشيرازي، سواء على مستوى الجامعات الاكاديمية أو الحوزات الدينية. لكنها للأسف ظلت محافظة وتقليدية دون ان تواكب تطورات العصر، وكان يمكنها ان تُحدث نقلة فكرية عظيمة لو أنها أرفقت بتلك المنظومة الفلسفية تدريسها للأفكار الفيزيائية الحديثة، جنباً إلى جنب، ومن ثم التخلص من الفكر العلمي القديم، وتشذيب المادة الفلسفية والعرفانية وإبعادها عن التلفيقات المتعلقة بالفهم الديني، وبالتالي الاكتفاء بمحض هذه المادة النظرية. ففي هذه الحالة سيتقابل الفكر الفيزيائي الحديث مع النظام الفلسفي العريق وجهاً لوجه، وسيفضي الجدل بينهما ليس فقط إلى الكشف عن وجوه الشبه بين الفكرين، بل الأهم من ذلك تطويرهما ضمن منظومة جديدة مهيئة لأن تكون عالمية وعصرية بامتياز.

 

 

 

comments powered by Disqus