-
ع
+

فهم النص وقانون العلاقة العكسية

يحيى محمد

للبحث في قوانين الفهم اهمية خاصة؛ وهي انها تتيح لنا ادراك كيف تجري عملية فهم النص وحدودها، وكيف يتم مجال السير عبر قواعد الفهم، وهل يمكن الاستغناء عنها ام لا؟ كذلك فهي تكشف لنا عن طبيعة العلاقة بين الفهم والنص، ومن ثم تحديد الشروط الكفيلة بتحقيق التطابق بينهما.

ومن هذه القوانين قانون العلاقة العكسية الذي يشير الى وجود علاقة عكسية بين النص والقبليات في التأثير على الفهم، فكلما زاد تأثير القبليات كلما ضعف تأثير النص، والعكس بالعكس.

فالفهم نتاج عاملين: النص والقبليات، فلا يمكن توليد فهم من غير قبليات، مثلما لا يمكن ذلك بدون نص. وبالتالي لا غنى عن هذا التفاعل والتأثير، مما يجعل العلاقة بينهما متغايرة، طبقاً لحجم تأثير كل منهما على الفهم. مع اخذ اعتبار تنوع القبليات، فهي إما أن تكون منضبطة او غير منضبطة، وكلا الحالين ينطبق على المقام. لكن مع لحاظ ان التأثير الذي تؤثر به القبليات غير المنضبطة هو تأثير عارض ليس متأصلاً في صميم عملية الفهم، مما يعني ان من الممكن تخفيف أثرها عند الوعي بها، وفي حالات معينة يمكن تجنبها بشكل نسبي. لذلك انها تنتمي الى السنن لا القوانين. في حين يحال على الفهم التجرد عن القبليات المنضبطة باطلاق. وبالتالي أنها اكثر معنية فيما نبحث فيه.

ومن حيث الدقة، ينحصر عمل القوانين في القبليات المنضبطة، خلافاً لسنن الفهم المرتبطة بالقبليات غير المنضبطة، كالتي عالجناها في دراسة مستقلة.

وطبقاً لقانون العلاقة العكسية فانه لا غنى عن العمل ببعض القواعد الاجرائية للقبليات المنضبطة، سواء كان ذلك بوعي كما في الثقافة العلمية، او دون وعي كما في الثقافة الشعبية. مما يعني ان قوانين الفهم تتماهى مع القواعد الاجرائية، حيث يحال على الفهم تجاوز سلطة الخيارات الممكنة للقواعد القبلية، رغم أن هذه الخيارات مفتوحة. بمعنى ان من الممكن للذهن اختيار قاعدة او اكثر من القواعد القبلية، لكن من المحال التفكير خارج حدود القواعد والاجراءات الممكنة، وبالتالي من المستحيل أن تتم عملية الفهم من غير قواعد قبلية، بوعي او دون وعي.

وعليه فإن للقواعد القبلية زاويتين من النظر، فهي من جهة تعبر عن قانون للفهم من حيث العموم، لكنها من جهة اخرى تعبر عن اجراء حر للفهم من حيث الخصوص، لأنها منتخبة ضمن جملة من الخيارات الممكنة، وإن كان من المحال تجاوز جميع هذه الخيارات، لهذا فهي تعد - من هذه الناحية - ضمن قوانين الفهم.

وبعبارة ثانية، لا تناقض في الجمع والاتحاد بين قوانين الفهم التي تتصف بالحتمية والذاتية، وبين القواعد الاجرائية الحرة غير الذاتية، فيما لو حُملت الأخيرة على أنها مجموعة خيارات ممكنة. وبالتالي تصبح هذه القواعد محتمة وغير محتمة، وكذا ذاتية وغير ذاتية. فهي محتمة من حيث ان الخيار لا بد من ان يجري ضمنها من دون تجاوزها، لكنها غير محتمة باعتبار ان إمكانات الخيار متعددة بتعددها. وهي ذاتية من حيث ان الفهم ملتصق بها لا على التعيين والخصوص، وغير ذاتية باعتبار ان هذا الفهم ليس ملتصقاً بها تعييناً وخصوصاً.

مع لحاظ ان الفهم لا يتجرد من بعض القواعد، كالذي يحصل مع الادراك والعلم ايضاً، حيث إن جميع هذه النشاطات الذهنية تستند الى قاعدة الاستقراء ومنطق القرائن الاحتمالية. وبالتالي يمكن اعتبار هذه القاعدة تتضمن القانون دون ان يتنافى ذلك مع كونها خياراً اجرائياً.

أما بخصوص النص ففيه ثلاثة عناصر تتحكم في الفهم، ليست عائدة الى القبليات، وهي: اللفظ والسياق والمجال، وطبقاً لهذه العناصر، وبالتعاون مع القبليات، يتشكل الفهم بصور ثلاث، هي: الاستظهار والتأويل والاستبطان. ويحصل للفهم بهذه الصور الثلاث مظهران يتفاوتان تفصيلاً وعمقاً، احدهما على نحو الاشارة، والاخر على نحو الايضاح والتفسير، كالذي عالجناه في دراسة مستقلة.

وعليه اذا كان الفهم هو نتاج مشترك لكل من القبليات والنص، فإن هذا النتاج حسب القانون المشار اليه يحدث بفعل التأثير المتفاوت للعلاقة بين الطرفين، فهو قد يحصل نتيجة تأثير قوي للقبليات قبال تأثير ضعيف لدلالة النص اللفظية، والعكس بالعكس. وتتحدد حالة القوة والضعف للقبليات بما تتصف به من مضامين عند اجراء عملية الفهم، فاذا كانت هذه المضامين حيادية، كما في قاعدة الاستقراء، فإن ذلك يجعل من القبليات ضعيفة التأثير، حيث انها لا تفرز مضامين واضحة الدلالة على الفهم. أما اذا كانت هذه المضامين قوية، كما في القبليات المنظومية، فإن ذلك يجعل منها قوية التأثير، اذ تظهر بصماتها واضحة على الفهم، خلافاً للحالة الاولى.

وللقبليات المنضبطة أشكال خمسة: مطلقة وعامة ومنظومية ومحايثة ومفترضة، وقد تعرضنا الى تفاصيلها في دراسة مستقلة. وهي تتفاوت في مقدار التأثير في الفهم كالتالي:

تقع القبليات المنظومية في قمة الهرم من حيث القوة، وهي على عكس القبليات المطلقة التي تقع في قاعدة الهرم من حيث التأثير، في حين تتوسط القبليات العامة بين المرتبتين. مع لحاظ ان بعض القبليات المطلقة تتصف بالحيادية الكاشفة، ولها ادنى حد من التأثير مقارنة بغيرها من القبليات المضمونية. ويكون شأن القبليات المحايثة ما يلي القبليات المنظومية من حيث القوة، اما القبليات المفترضة فقد تتصف بالقوة مثلما لدى القبليات المنظومية او ما هو ادنى منها.

وعليه نصادف أنواعاً ثلاثة من العلاقة في القانون المشار اليه، فلو رمزنا الى علامة الضعف بـ (ض)، وعلامة القوة بـ (و)، وعلامة التوسط بـ (ت)، والقانون بـ (قا)، والقبليات بـ (ق)، والنص بـ (ن)، فستكون العلاقات الثلاث كالتالي:

1ـ قانون العلاقة الضعيفة:

وتتحدد صياغة شكل هذا القانون بحسب العلاقة الرياضية التالية:

قا ض = ق ض + ن ← ف ض

ويعني أن القبليات المؤثرة في الفهم هي قبليات ضعيفة، مما يتيح لدلالة النص اللفظية أن تقوم بدورها القوي في التأثير. وتفضي هذه العلاقة إلى ما نسميه (المعنى الضعيف للفهم).

2ـ قانون العلاقة القوية:

والعلاقة الرمزية لهذا القانون تكون كما يلي:

قا و = ق و + ن ← ف و

ويعني ان القبليات المؤثرة في الفهم هي قبليات قوية، مما لا يدع للنص او دلالته اللفظية ذلك التأثير. وتتخذ هذه العلاقة ما نسميه (المعنى القوي للفهم).

3ـ قانون العلاقة المتوسطة:

حيث العلاقة الرمزية لهذا القانون تصبح كالتالي:

قا ت = ق ت + ن ← ف ت

ويعني توسط تأثير القبليات في الفهم، فلا هو بالقوي، ولا بالضعيف، وذلك مقارنة بالعلاقتين السابقتين القوية والضعيفة. الأمر الذي يفسح لدلالة النص اللفظية أن تقوم بدورها المتوسط في التأثير. وتفضي العلاقة في هذا القانون الى (المعنى التوسطي للفهم).

ومن الطبيعي ان القبليات الضعيفة تشترك عادة في التأثير على الفهم حتى لدى العلاقتين الاخريين، لان منها مطلقة ومشتركة لدى البشر كافة، لكن قد لا يكون دورها بارزاً مقارنة بهاتين العلاقتين.

كما يلاحظ ان العنصر الثابت خلال ما سبق من علاقات هو النص (ن)، اما القبليات (ق) فهي متغيرة، وبالتالي فان الفهم يتغير تبعاً لتغير القبليات فحسب.

كذلك ان الكم المعرفي الذي تتضمنه العلاقات الثلاث السابقة يختلف فيما بينها وفقاً لطبيعة القبليات، فالقبليات المنظومية تحمل من الكم المعرفي ما هو اكبر مما تحمله القبليات المتوسطة، وهذه اعظم مما تحمله القبليات الضعيفة، ويمكن التعبير عنها رمزياً كالتالي:

 ق و > ق ت > ق ض

لذا فالفهم الناتج بسبب القبليات يجعل مضامينه المعرفية متخذة ذات الاطار من الكم المعرفي كما يلي:

 ف و > ف ت > ف ض

ويمكن تطبيق العلاقات الثلاث السابقة للفهم على انماط القراءة الثلاثة (الاستظهارية والاستبطانية والتأويلية). فقانون العلاقة الضعيفة (قا ض) ينطبق على القراءة الاستظهارية، وقانون العلاقة القوية (قا و) ينطبق على القراءة الاستبطانية، كما ان قانون العلاقة المتوسطة  (قا ت) ينطبق على القراءة التأويلية.

وتصدق هذه القوانين على نتاج العلوم الطبيعية، مثلما تصدق على الفهم الديني. ففي العلم الطبيعي نجد ايضاً قانون العلاقة الضعيفة والقوية والمتوسطة، وفقاً لطبيعة القبليات المعتمدة في البحث. فهناك ثلاثة نظم علمية حديثة، كل منها يعمل وفق ما يلتزم به من منهج وقبليات، وهي النظام الاجرائي القائم على القبليات الضعيفة كما تتمثل بالطريقة الاستقرائية، والنظام الافتراضي الاستنباطي القائم على القبليات المتوسطة لامتلاكه بعض القبليات المفترضة والقابلة للاختبار، واخيراً النظام التخميني الميتافيزيائي، والذي يتصف بكونه يحمل افتراضات قبلية كثيرة غير مؤهلة للاختبار التجريبي. ووفقاً لهذه النظم وقبلياتها فان صياغة قوانين العلاقة لدى العلم ستتخذ ذات الصياغة المعتمدة في الفهم كما اسلفنا. وفي دراسة مستقلة عرفنا بان نظم العلم الحديث قابلة لان تخضع لانماط القراءة الثلاثة السابقة، اي الاستظهارية والتأويلية والاستبطانية، فالنظام الاجرائي يشاكل النظام البياني ويخضع كل منهما للقراءة الاستظهارية مثلما يخضعان لقانون العلاقة الضعيفة، والنظام الافتراضي الاستنباطي يشاكل النظام العقلي المعياري للفهم، وكلاهما يخضعان لقانون العلاقة المتوسطة، في حين ان النظام التخميني الميتافيزيائي يشاكل النظام الوجودي، فكلاهما يخضعان لقانون العلاقة القوية. اي ان قانون العلاقة الاولى، ذا العلاقة الضعيفة، ينطبق على النظام الاجرائي، كما ينطبق القانون الثاني، ذو العلاقة القوية، على النظام التخميني الميتافيزيائي، في حين ينطبق القانون الثالث، ذو العلاقة المتوسطة، على النظام الافتراضي.

***

وعلى العموم لا يفهم القارئ من تقسيمنا لقوانين العلاقة العكسية اننا نميل الى الأخذ بالمعنى الضعيف للفهم قبال القوي دائماً؛ رغم تحفظنا من القبليات المنظومية، لا سيما التجريدية او المتعالية، كحال المنظومات الوجودية والكلامية. ففي حالات معينة قد نرجح المعنى القوي للفهم على المعنى الضعيف. فمثلاً قد ترجح القواعد المنحازة ضمن القبليات المطلقة على ما دونها، رغم ان هذه الأخيرة قد تتضمن المعنى الضعيف للفهم، اي التأثير الأقوى للنص مقارنة بالقبليات. فمثلاً بحسب الفهم اللغوي والبياني يتحقق المعنى الضعيف للفهم، اي يبدي النص تأثيراً قوياً مقارنة بالقبليات، لكن مع ذلك قد لا يصح التعويل عليه، لا سيما عندما يتنافى مع بعض القبليات العقلية الوجدانية او الحسية، وبالتالي قد يرجح مضمون هذه القبليات على التأثير القوي الذي تبديه الدلالات اللفظية للنص. لذلك ليس التعويل على قوة الدلالات اللفظية للنص بالامر الضروري لمعرفة قصد الخطاب، فهناك عناصر قبلية قد تحول المعنى المستوحى من النص الى معنى اخر مخالف او معدّل. ومن بين اهم العناصر القبلية المؤثرة على الفهم ما يلي:

قد يضمر النص معان عقلائية يحتاجها الفهم دون حاجة للذكر والتنبيه، فبدون اخذ اعتبارها يصبح النص مخالفاً لأبسط الوجدانيات والبديهات. فلا يحتاج النص لذكر ما يمكن فهمه مباشرة عندما يقرر بعض الحقائق او الوصايا، فمثلاً عندما يرد قوله تعالى: ((انك ميت وانهم ميتون)) لا يحتاج الى التنصيص وايضاح المعنى الخاص بهذا النص، طالما ان القارئ او السامع يفهم طبقاً لقبلياته الحسية ان المقصود به هو ان الكل سيموت، لا انهم ميتون فعلاً عند تنزيل هذا الخطاب، وبالتالي لا داعي للتنصيص على هذا المعنى.

فما من نص الا ويستهدف نوعاً محدداً من القراء والمتلقين، وهو عند استهدافه لجماعة من المخاطبين يوظف جملة من دلالات السياق اللغوي المتعارف عليها، بحيث يفهمها القارئ والمتلقي المستهدف، وبذلك لا يكون معنياً بذكر كل شيء يريد قوله، فقد يضمر أشياءاً لا تحتاج الى الذكر الصريح باعتبارها معلومة ومفهومة لدى المتلقي. او انه يضمر أشياءاً تعد حاضرة سلفاً لدى ثقافة المتلقي، لا سيما تلك المتعلقة بقيمه وظروفه الاجتماعية. فهو بمثابة القارئ الاصلي حسب التعبير الادبي لكونه المعني بالفهم. ويعد هذا التبليغ والتواصل عقلائياً، فمتلقي الخطاب يفهم هذا التبليغ وإن لم يُصرَّح به لغوياً.

ونسمي هذه الظاهرة بقاعدة (الاضمار المفهوم)، وعلى خلافها قاعدة الاضمار غير المفهوم، وذلك عندما يضمر النص أشياءاً لا يفهمها القارئ والمتلقي، مما يحتاج الى افتراضات مناسبة تغطي مثل هذا النقص. وقد يكون الاضمار المفهوم عقلياً لا يحتاج الى التنصيص اللغوي. كما قد يكون عرفياً يفهمه كل من عرف نمط الكلام الدائر بين المخاطب والمتلقي، وكذا النص والقارئ، كالنصوص القرآنية التي تتحدث عن تحليل اشياء او تحريمها دون ذكر مواضع التحليل والتحريم باعتبارها مفهومة عرفاً لدى القارئ والمتلقي، كقوله تعالى: ((حُرمت عليكم أُمهاتكم))، حيث فيها أمر محذوف، وهو بحسب الفهم العرفي يقدر بالنكاح. ومثل ذلك ما جاء في آية ((أُحلت لكم بهيمة الأنعام))، حيث يقدر فيها «الأكل». ومثلها آية ((وأنعام حُرمت ظهورها))، اذ المقدر فيها «الركوب»، ومثل ذلك ((النفس التي حرم الله))، حيث يقدر فيها «القتل»[1].

ونشير ايضاً الى أن التأثير القوي او الضعيف لدلالة النص اللفظية يتأسس وفقاً للعلاقة بالقبليات، اذ يمكن تصور هذه العلاقة بحسب مرتبتين متعاكستين. فعلى ضوء تقسيم الادراك الى فاعل ومنفعل؛ يمكن فعل الشيء ذاته مع النص او دلالته اللفظية. وطبقاً لهذا التقسيم تكون العلاقة بين الادراك والنص عكسية. اي كلما كان النص فاعلاً كان الادراك منفعلاً، والعكس بالعكس. وكل فاعل مؤثر، وكل منفعل متأثر.

والمقصود بكون النص فاعلاً هو ان تتخذ الصورة الذهنية شكلاً منعكساً لمظهر النص او مقارباً له. وهو ما يطلق عليه الأصوليون ظاهر النص. أما ما نقصده من كون الادراك او المدرِك هو الفاعل فهو أن تتشكل الصورة الذهنية للنص بحسب ما يريد لها الادراك من معنى طبقاً للقبليات، وهو المعنى القوي للفهم. وهنا يكون الادراك - تارة - فاعلاً بنحو المغالبة والتأثير في علاقته مع النص، فيعمل على تحجيم فعل النص المعرفي قليلاً او كثيراً، وذلك عندما يجعل المدرِك الصورة الذهنية المبتدعة على خلاف ظاهر النص، او خلاف صورة النص المنعكسة في الذهن، مثلما يلاحظ في حالات التأويل. كما يكون الادراك - تارة اخرى - فاعلاً لا بنحو مغالبة النص وتحجيم فعله المعرفي او ابطاله كالسابق، وانما بنحو تقييد هذا الفعل وتضييق سعته[2].

لكن اذا كانت العلاقة بين القبليات والنص هي علاقة عكسية كما عرفنا؛ فأي من هذين العاملين يسبق في تحديد الدور المعرفي للاخر؟ فهل يبدأ التحديد من قبل القبليات ام النص؟ فالبداية تحدد النهاية من دون عكس، وان الفعل المعرفي الذي يسبق اليه احدهما سوف يلقي بتبعاته على الاخر.

للجواب على هذا السؤال نشير الى ان تعاملنا مع القبليات هو تعامل ذاتي يخص اذهاننا مباشرة، بخلاف تعاملنا مع النص، حيث له وجوده الموضوعي ونعبر عنه بالشيء في ذاته. ومن ثم فالعلاقة بينهما تتحدد بعلاقة الذاتي بالموضوعي، وبالتالي من المحال ان يحدد الموضوعي ما هو ذاتي، بل العكس صحيح، اذ يخضع الأمر للارادة الذهنية المتعلقة بما هو ذاتي مباشرة، مما يصدق على القبليات دون النص، باعتباره امراً موضوعياً لا يتعلق بالارادة مباشرة.

وبعبارة اخرى، ترتبط الارادة الذهنية بالامر الذاتي على نحو الحضور لا الاكتساب، خلافاً للارتباط بالامر الموضوعي، اذ يجري الارتباط به عبر الاكتساب غير المباشر لا الحضور. ولكي تتحقق عملية الاكتساب لا بد من الاستعانة بالامر الذاتي، فبدونه لا سبيل للتعلق بالامر الموضوعي، سواء كان نصاً او شيئاً خارجياً. في حين ان العكس ممكن، اي ان الارتباط بالذاتي والتعامل معه ممكن بسبب حضوره - مباشرة – من دون التوقف على شيء اخر من الاكتساب ونحوه.

هكذا يتبين ان التعامل مع النص متوقف على الارتباط بالقبليات، في حين ان العكس غير صحيح، اي ان التعامل مع القبليات لا يتوقف على شيء اخر موضوعي او مكتسب، كالنص وما اليه من القضايا التحصيلية غير المباشرة. وبالتالي ففعل القبليات هو الذي يحدد فعل النص من غير عكس، الأمر الذي جعلنا نحدد قوانين العلاقة الثلاثة طبقاً للقبليات لا النص. فالعلاقة بينهما هي علاقة فعل وانفعال، فالفعل نتاج القبليات وعليه يتحدد انفعال النص عكسياً طبقاً للقانون المشار اليه. فنعرّف قانون العلاقة الضعيفة - مثلاً - انه عبارة عن التأثير الضعيف للقبليات في الفهم، وعليه يتحدد التأثير القوي للنص. ولا يصح عكس هذه العلاقة، طالما ان الفعل يبدأ - دائماً - من القبليات باتجاه النص من دون عكس. وبالتالي فما نسميه المعنى الضعيف والقوي والمتوسط للفهم انما يتقيد بهذه الحقيقة من السبق والتحديد.

ويمكننا ادراك ايهما اقوى تأثيراً: النص ام القبليات؟ فكلما اعتمد القارئ على القرائن المتسقة التي يتضمنها النص وفقاً للقبليات المحايدة كان للاخير التأثير الاعظم في الفهم. والعكس بالعكس، فلو ان القارئ لم يهتم بالقرائن المتسقة، او انها كانت ضعيفة وقليلة، فانه سيعوض هذا النقص من خلال بعض القبليات، فتمتلك بذلك التأثير الاعظم مقارنة بالنص.

ويصدق الحال السابق على ما يخص علاقة القبليات بادراك الاشياء الخارجية وتفسيرها، فالتأثير الاولي في التفسير يتحدد بالقبليات لا الاشياء، فكلما كان التأثير الاول ضعيفاً، كلما قوي تأثير الاخر، والعكس بالعكس، وفقاً لقوانين العلاقة العكسية الانفة الذكر. ويمكن ان يتضح هذا المعنى من حيث الفارق بين التفسير الذي يتبناه الفلاسفة والعرفاء للواقع الخارجي، مقارنة بالتفسير المبني على قاعدة الاستقراء والاحتمالات العقلية كالذي يتقوم به العلم الحديث، حيث التفسير الاول متخم بالعلاقة القوية، خلافاً للتفسير الثاني.

لكن اذا كان التحديد الاولي رهين القبليات، وان فعل النص يأتي بناء على حجم تأثيرها، فالسؤال الذي يطرح بهذا الصدد هو: كيف يمكن تحصيل فهم مطابق للنص اذا ما كانت القبليات هي المحدد الاساس للفهم؟ وهو ذات السؤال الذي يمكن ان يثار حول العلاقة بين الادراك والواقع، وكذا العلم والكون؟

ويعتمد الجواب - هنا - على طبيعة هذه القبليات، فالتطابق ممكن عندما تكون القبليات من نوع العلاقة الضعيفة، فلو تحكم هذا القانون في الفهم لأمكن انتاج نوع من التطابق بقدر ما يحمل من فهم بالمعنى الضعيف (ف ض)، كالذي عليه القبليات المحايدة، فهي لا تضيف الى الفهم شيئاً سوى كشفها عن احوال النص، او جعل النص يكشف عن ذاته بذاته من دون تطفل قبلياتنا المنحازة، فهي أدعى للتعبير عن طبيعة النص وحقيقته. والشيء نفسه يصدق حول العلاقة بين الادراك والواقع.

وبحسب التعبير الرياضي فان:

ق م + ن ← ف ض

حيث (م) ترمز الى المحايدة من القبليات.

ففي النص الديني تصدق الصيغة الرياضية السابقة عندما تكون القبليات منطقية، كالقبليات الاستقرائية او الاحتمالية الكاشفة بنحو كبير من القرائن.

ويضاف الى ذلك الفهم المتوسط كالذي يبتنى على قبليات الضرورة الوجدانية والحسية، ومثلها تلك المبتنية على الواقع ضمن القبليات المحايثة (ق ح). فهو ايضاً يمكن ان يفضي الى التطابق باعتبار ان الواقع المحايث (ع) مقرّب لدلالة النص، لهذا كان الخطاب (الشفوي) يعطي دلالة اعظم للمعنى المقارب مقارنة بالنص (المدون)، كالذي كشفنا عنه في دراسة مستقلة. وبالتالي تكون الصيغة الرياضية كما يلي:

ق ع + ن ← ف ت

حيث (ع) ترمز الى الواقع المحايث.

وفي القبال عندما تكون القبليات منظومية (ق ظ) فان الفهم الناتج سيكون معبراً عن المعنى القوي (ف و)، كالذي تبديه القاعدة الرمزية التالية:

ق ظ + ن ← ف و

حيث (ظ) ترمز الى المنظومية من القبليات.

 

 



[1]       انظر الفصل الاول من: جدلية الخطاب والواقع.

[2]  انظر كتابنا: فهم الدين والواقع، الفصل الأخير (منهج الفهم المجمل والمقاصد).

comments powered by Disqus