-
ع
+

فهم النص وقانون تحكم الكل بالجزء

يحيى محمد

تعد الجملة النصية وحدة اساسية يتشكل منها النص، وتتألف من ألفاظ وحروف، وبمجموعها تفيد المعنى التام، وعند تجزئتها لا تفيد هذا المعنى. وعليه اعتبرناها وحدة النص الاساسية. والاهم من ذلك ان بارتباط ألفاظها وحروفها يتحدد معنى كل جزء منها، اي ان فهم الكل للجملة النصية يسبق فهم الاجزاء اللفظية ويعمل على تحديد معناها. وقد كان البلاغي المعروف عبد القاهر الجرجاني يرى أن الكلمة ليس لها عطاء واضح في المعنى، بل يُفهم المعنى الواحد من مجموع الكلمات التي ينتظمها الكلام، فلا تعرف الأغراض الا من مجموع الكلام كمعنى حاصل، وكما قال في (دلائل الإعجاز): >واعلم أن مثل واضع الكلام مثل من يأخذ قطعاً من الذهب أو الفضة فيذيب بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة، وذلك أنك إذا قلت ضرب زيد عمراً يوم الجمعة ضرباً شديداً تأديباً له فإنك تحصل من مجموع هذه الكلم كلها على مفهوم هو معنى واحد لا عدة معان كما يتوهمه الناس، وذلك لأنك لم تأت بهذه الكلم لتفيده أنفس معانيها وإنما جئت بها لتفيده وجوه التعلق التي بين الفعل الذي هو ضرب وبين ما عمل فيه والأحكام التي هي محصول التعلق<[1].

واذا كانت الجملة النصية هي الوحدة التي يتشكل منها النص، فإن الأخير قد يعبر عن هذه الوحدة فحسب، كما قد تكون له مجموعة من الجمل النصية المترابطة بلا تحديد.

وينطبق ما قررناه سابقاً على علاقة الجملة النصية بالنص كله. فالتحديد النهائي لفهم الجملة النصية يتوقف على فهم النص كله بنحو من الإجمال. ففهم الجملة النصية معتمد على ما موجود من قرائن لفظية وسياقية في النص كله. فهذه القرائن هي التي تحدد المجال المجمل في الجملة النصية، كما انها تحدد المعنى اللفظي المجمل (الإشارة) لهذه الجملة. وبالتالي لا يمكن للقارئ تحديد فهم الجزء تحديداً نهائياً دون لحاظ فهم الكل.

وينطبق هذا الحال على الكاتب عندما يريد إنشاء نص معين، فهو لكي يحدد معنى النص كان عليه أن يختار جملاً مناسبة دون غيرها. فمثلاً لو كان يكتب نصاً سياسياً فسوف لا يفكر في جمل لها علاقة بالطبخ أو الرياضة أو الفيزياء... الخ. ولأجل أن يحدد جملاً مناسبة كان عليه أن يختار كلمات ذات معنى محدد وسط عدد كبير من الكلمات. كما انه عندما يريد أن يحدد هذه الكلمات كان عليه أن يختار حروفاً معينة دون أخرى. وبذلك يتطلب إنشاء النص أن يسير التفكير من الأعلى فالأدنى، أو من الكل إلى الجزء، وليس العكس، حيث يتنزل الفكر عبر مراتب أربع يتحكم فيها الأعلى بالأدنى: من النص فالجملة فالكلمة فالحرف.

ولعل سائل يسأل: لِمَ لا يمكن فهم اجزاء النص جملة جملة، من غير لحاظ الكل، والانتهاء من ثم الى فهم الكل بنفس اللحاظ الاول للجمل، اي التحول في الفهم من الجزء الى الكل لا العكس؟

وللجواب نقول: يتأثر فهم الجمل النصية بعضه بالبعض الاخر، وبالتالي فما لم يتشكل فهم الكل على نحو الاجمال فانه لا يمكن تحديد فهم الجزء. فأول ما يتحدد عند فهم الكل هو مجال الجملة النصية، ثم بعده يتحدد مستوى الاشارة المجملة، وذلك قبل فتح باب الفهم المفصل للجملة عبر الايضاح والتفسير. وأول ما يرد في الفهم هو توقع القارئ لمجال الكل من خلال عنوان النص، او مقاطعه الأولى، وعليه يبني فهم سائر المقاطع عبر عملية جدلية يتأثر بها فهم الجزء بالكل، والعكس صحيح أيضاً، حتى ينتهي الحال بالقارئ الى الفهم المستقر للنص.

فالأمر أشبه بعلاقة البنّاء بالبناء، فهو لا يضع أجزاء البناء قطعة قطعة دون تصور مسبق للكل، ولو فعل ذلك لكان بناءه بناءاً اعتباطياً؛ ليس للارتباط بين أجزائه معنى ولا غاية. لذا فلكي يحصل الارتباط المنظّم بان تكون كل قطعة في موضعها المناسب لا بد من ان يرتكز سلفاً على تصوره المسبق وتخطيطه الكلي للبناء.

وكذا هو الحال في علاقة فهم الجملة النصية بفهم الكل. فمثلاً لو أبدت الجملة النصية نوعاً من الفهم العرفي عند عزلها عن الكل، وتبين بلحاظ الكل ان المراد هو الفهم الرمزي لا العرفي، لافضى ذلك الى تغيير الفهم الاول وابداله مما كان يحمل المعنى العرفي الى المعنى الرمزي، ولتحول فهم المجال مما هو مجال حقيقي الى مجال رمزي او استبطاني. وكذا لو أبدت الجملة فهماً بحسب الظهور الحرفي، وتبين بحسب فهم سائر الجمل ان المراد هو التأويل لا الفهم الحرفي، فإن ذلك سيجعل من فهم الكل متحكماً بفهم الجزء لا العكس. كما لو كانت الجملة النصية تفيد المعنى المجاز، وتبين من فهم الكل انها تدل على المعنى الحرفي، فإن فهم الجملة سيتغير.

هكذا يظهر ان ما يحدد المعنى إن كان رمزياً او مجازياً او حقيقياً انما هو فهم الكل لا الجزء.

ويخضع هذا القانون للعملية الاستقرائية، حيث ينتزع القارئ (المتميز) من خلالها عدداً من الكليات التي يستفيد منها لتحديد معنى الجملة النصية.

وتتخذ العملية الاولى في الفهم تحديد مسار النص الاجمالي إن كان مساراً قائماً على الفهم العرفي ام لا؟ وهذا التحديد يساعد على فهم الجملة النصية طبقاً للمعنى الاستظهاري او التأويلي او الاستبطاني. اذ لا يمكن تحديد معنى الجملة النصية ما لم يعرف قبل ذلك المسار المشار اليه. فمن خلاله يمكن تحديد المجال الخاص بالجملة ومن ثم الاشارة فالايضاح او التفسير. فمثلاً ان المسار المشار اليه في قصة (حي بن يقظان) او حكاية (حفيف اجنحة جبريل) تدل على المعنى الرمزي، رغم ان البداية عادية تبدي المعنى العرفي للنص، لكن سرعان ما يتضح المسار الرمزي شيئاً فشيئاً، فيصبح تحديد معنى الجمل الاولى للقصة او الحكاية خاضعاً للمسار الرمزي، فالنهاية كفيلة بتحديد البداية، وليس العكس.

ولا تتوقف العملية الاستقرائية عند هذا الحد، فبفعلها يمكن انتزاع عدد من القضايا والنظريات العامة التي لها دورها في تحديد معنى الجملة النصية، كما في النص الديني، مثل انتزاع ما اذا كان خطاب النص متوجهاً الى المشافهين به فحسب، ام يشمل الغائبين ايضاً؟ وكذا فيما اذا كان يمكن لعامة الناس تحديد معاني الخطاب، ام ان ذلك مقتصر على خواصهم فقط؟ وهل ما يحدد فهم النص ظاهره فحسب، ام هناك امور اخرى تساعد على فهمه؟ وهل غرض النص الكشف عن الطبيعة حينما يتحدث عنها، ام جعل ذلك متروكاً لعقل الانسان؟ وكذا يقال حول خصوصية الدين ان كان متسامحاً او متشدداً؟ ومثله ان كان دين انفتاح ام انغلاق؟... الخ.

فباستقراء النصوص يتبين للقارئ (المتميز) عدد من الأنساق المعرفية، وهي كليات تتحكم بفهم الجملة النصية. وقد يفضي الأمر احياناً الى تأويل بعض الجمل النصية تبعاً لاعتبارات فهم الكل. وحتى عندما تؤثر الجملة النصية على تغيير فهم الكل، فإن ذلك يحدث بفعل فهم الكل ذاته، إذ يعاد ترتيب فهم الكل من جديد ليتم على ضوئه تفسير الجملة النصية الشاذة، وتجنب ما قد يبدو من تناقض في الفهم. وفي جميع الاحوال ان فهم الكل يسبق فهم الجزء ويتحكم فيه. فسواء انتهينا الى الفهم المستقر للنص، أم مازلنا ضمن دائرة الفهم المتحول وجدلياته، فان الحال لا يتغير حول اسبقية فهم الكل وحاكميته للاخر.

على أن قراءة أي جملة من جمل النص ومقاطعه تبدي نسقاً دلالياً معيناً، وعندما يكون القارئ معتقداً بقداسة النص فإن ذلك يدفعه الى البحث عن ايجاد روابط الاتساق في كافة الأنساق الدلالية لهذه الجمل والمقاطع. فهو إما أن يجد الاتساق واضحاً في الأنساق المشار اليها من دون عناء، بمعنى أن هناك قرائن دلالية كثيرة باعثة على الاتساق فيكون بذلك موضوعياً، او أن ذاتية القارئ تفرض حالة الاتساق - بشكل ما من الأشكال - على تلك الأنساق عبر قبلياته المفترضة. وكثيراً ما يجد القارئ نفسه عند تقدمه في القراءة أنه يصطدم باختلالات لدى بعض الأنساق الدلالية للجمل التي تمت قراءتها من قبل، والتي كان يظن بأنها متسقة، وذلك بسبب ما تضيفه الجمل الجديدة من معان مخالفة ومعارضة لما سبق. وهذا ما يدعوه الى تعديل صورة النسق الكلية طبقاً لافتراضاته وقبلياته.

وغالباً ما تكون القراءة الفاحصة استرجاعية، بمعنى ان من يقرأ النص (المميز) يكثر المعاودة على قراءته، وفي كل مرة غالباً ما يكتشف القارئ (المتميز) ضوءاً جديداً، وربما مغيراً للفهم السابق، وبالتالي قد تعمل القراءة الاسترجاعية على تشكيل الصورة والفهم من جديد، لكنها مع ذلك لا تؤثر في المبدأ العام في تحكم فهم الكل بفهم الجزء، فالصدام مع الفهم الجزئي ينبّه على ضرورة تغيير فهم الكل، لكنه لا يحكمه، فالفهم الجزئي لا يحكم الا ذاته فحسب، انما قد يشكّل صورة من التمرد والمعارضة لفهم الكل المقرر، وهذا كل ما يمكن فعله، وهو عدم الخضوع لحكم فهم الكل مما يقتضي تبديله بفهم كل اخر له القدرة على استيعابه، وربما تعاد صياغة فهمه بما يتسق مع فهم الكل. وفي جميع الأحوال لا بد من اعادة تشكيل الصور وتوليد أفهام جديدة ناسخة كلما اصطدم فهم الكل بمعارضة الجزء له.

وبهذا فإن قراءة الجمل والأجزاء قد تغير من طبيعة فهمنا للنص شيئاً فشيئاً، وان كل اتساق للنسق الدلالي السابق قد يجد خرقاً بفعل ما نكتشفه من معان مخالفة في المقاطع الجديدة، وكل ذلك يعمل على إعادة تشكيل وتفسير ما تمت قراءته بدمج المقاطع القديمة والجديدة تحت مظلة ما يفترض من فهم الكل الجديد. ففي كل تغيير هناك فرض جديد كلي يعمل على تفسير ما تمت قراءته بنوع من الاتساق، بحيث يظن القارئ انه يعبر عن حقيقة مقصد النص او قريب منه، او كونه أفضل الفروض المرجحة بفضل اتساقه وتماسكه. وبذلك يقع القارئ في ما يطلق عليه في النقد الأدبي بأُفق التوقع والانتظار. اذ في كل مرة يكون القارئ حاملاً لنسق من الفهم المتوقع للنص عند القراءة، وتتبين حقيقة هذا التوقع بعد حين من الانتظار، فيكون نصّ (ما بعد) محدداً لنصّ (ما قبل)، مثلما ان البداية تجري على العكس من ذلك، اي ان نصّ (ما قبل) هو الذي يحدد نصّ (ما بعد). وبلا شك تظل البداية مجرد منطلقات خلافاً لما تنتهي اليه صيرورة القراءة من تحديد النهاية للبداية. كذلك فان القراءات المتكررة للنص قد تضفي عليه ابعاداً واكتشافات جديدة لم تكن مدركة من قبل. وكثيراً ما نلاحظ هذه القضية عند قراءتنا لنص او رسالة، فقد نفهمه بشكل ما، ثم يتغير الفهم لدينا جزئياً او كلياً عند اعادة قراءة النص، وقد يتوالى هذا الامر لعدد من المرات عند التكرار حتى يستقر فيه الحال، ولم تعد القراءة المتكررة مؤثرة في الفهم لدى شخص القارئ نفسه.

وتعبر جميع صور الأنساق الدلالية المتنازعة عن أفهام كل مختلفة، بعضها يعمل على زعزعة البعض الآخر وازاحته، فكل فهم كل جديد قد يصير بالياً أثناء القراءة عندما يحل عوضاً عنه فهم آخر أجد منه، حتى تتبلور اخيراً جملة من الأنساق الدلالية الكلية المتسقة والمعبّرة عن مقاصد النص لدى القارئ. ولما كان النص محدوداً فإن من الممكن تحقيق فهم كل شامل ونهائي بالنسبة للقارئ الشخصي، ويختلف الأمر من قارئ الى آخر لاعتبارات عديدة، لا سيما ما يتعلق بقبلياته المنضبطة وغير المنضبطة. ولولا ان النص محدود ومحصور لجرت العملية بلا نهاية، فكل نسق من فهم الكل قابل لأن يتزعزع ويزاح بفعل ما يمكن ان يصطدم به من مقاطع جديدة اخرى لم يتم التعرف عليها بعد، وكل توقع يأخذ دوره ضمن أُفق الانتظار، وهكذا...

اذاً في كل مرة تتولد صورة لفهم الكل يتحدد بها فهم الجزء، وفي كل مرة تعاد صياغة فهم الكل بطريقة اخرى متسقة بفعل الاصطدام مع الأجزاء النصية ذات الأنساق المخالفة لمعنى الكل السابق، حتى يتحقق في الأخير حالة من الإتساق في نسق الكل للفهم، وبه تُفسر مختلف المقاطع النصية، وكل ذلك يحدث بفعل العديد من الافتراضات القبلية التي تدفع اليها الجمل النصية المخالفة لأنساق الفهم السابقة.

واذا كانت القبليات تمتلك قواعد كلية للتحكم، وان النص يعبّر عن مفاهيم جزئية، لذا تتحدد العلاقة بينهما عبر تحكم الكل بالجزء. فالفهم على الدوام هو نتاج تحكم الكل بالجزء من دون عكس. وينطبق هذا الحال على جميع الدوائر المعرفية التي تزاول عملية الفهم، بما فيها الدائرة البيانية التي تعتمد على الظهور اللفظي، فهي مدينة الى القاعدة القبلية الكلية المتمثلة بالفهم العرفي للنص. بل حتى هذه القاعدة ترجع من حيث الأصل الى قاعدة الاستقراء واحتمالاتها العقلية. فبهذه الأخيرة يتبين المعنى العرفي للنص غالباً او اجمالاً، ومن ثم فإن هذا المعنى يتحكم في تحديد معنى الجملة النصية.

اذاً يتحدد معنى الجملة النصية عبر قاعدة العرف اللغوي، وهي بدورها مدينة الى قاعدة الاستقراء. والأمر ذاته ينطبق على ادراك الموضوع الخارجي للاشياء، حيث لا يمكن التصديق باي شيء من الاشياء من دون تحكم قاعدة الاستقراء واحتمالاتها العقلية. وبالتالي فإن الكل سابق ومتحكم بالجزء، سواء كان ذلك على صعيد العلاقة مع النص، او العلاقة مع الشيء الخارجي.

وبذلك يتبين وجه الشبه بين فهم النص وادراك الشيء الخارجي، حيث في كلا الحالين تكون القبليات هي التي تحدد فعل الظهور، كما انها ككليات تتحكم في فهم وتفسير الجزئيات التابعة للنص والشيء الخارجي، ولولاها ما كان بالامكان ان نعرف شيئاً، ولا ان نفهم نصاً.

وينطبق الحال ذاته على العلوم الطبيعية، فهي تتوقف على طبيعة القبليات المعرفية التي تستخدمها في البحث، فتارة تتصف هذه القبليات بالحياد كما يفعل المنطق الاجرائي عادة، واخرى تعبر عن افتراضات خيالية ورياضية كالذي يفعله النظام الافتراضي، كما قد تعبر القبليات عن اشكال ميتافيزيقية وفلسفية كالذي يصنعه منهج النظام التخميني الميتافيزيائي.

مع هذا يمكن أن نتساءل: هل من الممكن أن يؤثر النص في تغيير قبلياتنا؟ فلحد الآن نحن نبدي التأثير الفعلي للقبليات دون النص، اذ ليس للاخير من تأثير سوى ردة الفعل التي يمارسها على الفهم بعد تأثير القبليات. فهل يمكن لردة الفعل هذه أن تؤثر في تغيير قبلياتنا وقناعاتنا السابقة؟

حقيقة الأمر أن للنص تأثيراً مقابلاً على تغيير قبلياتنا، ولكن بنحو جزئي. فهو يعمل على تحويل بعض من هذه القبليات واستبدالها بأُخرى او بنتائج الفهم. ومن أهم العوامل التي تساعد على جعل النص مؤثراً في قبلياتنا هو اندماجنا وخضوعنا لتوجيهات النص ضمن مساره العام. فقد يعمل النص على تغيير الكثير من نواحينا الذاتية وقبلياتنا ومسلماتنا، وذلك عندما نجد أنفسنا مدفوعين في القراءة نحو معان مؤثرة هي غير تلك التي كنّا نحتفظ بها قبل القراءة. ومع ان القراءة ذاتها واندماجنا في النص انما يأتي بفعل توجيه بعض القبليات، لكن ما يستفاد من هذه الممارسة يدفع الى تغيير بعض اخر من قبلياتنا الذاتية. وبالتالي يصبح الفهم مغيراً لقبلياتنا بعد أن كان نتاج هذه الاخيرة. وتعرف هذه العلاقة الجدلية بين القبليات والنص بالدائرة الهرمنوطيقية[3]، اذ ينطلق الفهم من خلال تحكم المفاهيم القبلية الكلية بالنص، لكن في القبال ان جزئيات الاخير تعمل على إعادة بناء هذه المفاهيم، وهكذا يدور الحال بين الأمرين فيحصل الإثراء والإضاءات الجديدة لدى القراء، او كما يقول ريكور: “إن مسلّمات من نوع ما عن الكل تُضمّن عند التعرف على الأجزاء، والعكس صحيح أيضاً، فعند تفسير التفاصيل نفسر الكل”[4]. وسبق لهايدجر أن اعتبر الفهم يجري بصورة دائرية دائماً، فأي تفسير يحمل فهماً سابقاً له، وهكذا[5]. وأول ممارسة تعميمية وتوقعية لفهم الكل تبدأ عند الاطلاع على العنوان الأول للنص، او عبر تلقي المقاطع الأولى له، ومن ثم تبدأ عملية التأثير والتغيير فعلها كلما طالت ممارسة القراءة والفهم.

وعموماً أننا قبل ممارسة القراءة نحمل لغة نتوجه بها الى فهم النص، وهذه اللغة او معانيها وليدة ثقافتنا الحاضرة، وهي بالتالي من القبليات، اذ تختزن اللغة تصوراً منظومياً للعالم، مثلما تختزن الكلمة المعنى المعرفي للفظ، وهي بهذا الشكل تجعل رؤية العالم رؤية تأويلية تختلف من مجتمع لآخر، بل ومن فرد لآخر أيضاً، وكل ذلك ينعكس على فهم النص. فمع أن اللغة تساعدنا على هذا الفهم، لكنها عند القراءة والمتابعة تتحول الى معان أُخرى مخالفة بفعل ما يظهره النص من دلالات جديدة ضمن مقاطعه المختلفة، وتصير مثل هذه المعاني هي الموجهة لفهمنا للنص بدل المعاني السابقة التي كنّا نحتفظ بها قبل القراءة ونعمل على تطبيقها وإسقاطها. وبذلك يتم الشذب والتهذيب، او تصبح لغة النص ومعانيه حاكمة على اللغة القبلية التي بدأنا من خلالها فعل القراءة بعد أن كانت محكومة بهذه الأخيرة.

ولا بد من التمييز - هنا - بين القبليات الثابتة والمستقرة من جهة، والقبليات المتغيرة وغير المستقرة من جهة ثانية. فالقبليات الاولى تتصف بالموضوعية وهي لا تقبل التغيير والتحويل، مثل قاعدة الاستقراء وما اليها من القبليات المطلقة، في حين تتصف الثانية بالذاتية وانها تقبل التغيير والتحويل، مثل القبليات المنظومية والقبليات غير المنضبطة؛ كتلك المستمدة من العادة والتقليد، فمثل هذه القبليات يمكن ان تتحول وتتغير بعد القيام بقراءة النص والخضوع لتوجيهاته، وذلك اذا ما كان النص يبعث على معان مخالفة لما استقرت عليه ذات القارئ من افكار. وبهذا تبدأ عملية تصحيح القبليات بفضل البعديات من الفهم، كما تبدأ عملية التكوين المعرفي المؤسس على النص، ولو بفعل جملة من القبليات الثابتة والمستقرة، ولولاها ما كان بالامكان قراءة النص وفهمه، فضلاً عن الاندماج فيه.

وبذلك فإن هناك عوامل متعددة تشترك في العمل على تحديد فهم الجزء، وهي تشتمل من حيث التحديد على كل من القبليات بمختلف أنواعها، مضافاً الى فهم الكل. لكن هذا الأخير متوقف على نشاط القبليات، رغم استقلالها عن النص، فهي التي تعمل على صياغة فهم الكل بفعل احتكاكها بالنص، وبالتالي يكون كل من القبليات والنص مسؤولاً عن توليد هذا الفهم، وهو بدوره يصبح بمعية الاعتبارات الخاصة بكلا هذين العاملين متحكماً بفهم الجزء. الامر الذي لا يتنافى مع حصول التأثير المعاكس، وذلك عندما يعمل فهم الجزء على تغيير فهمنا للكل، ومن ثم فإن هذا الأخير قد يغير من قبلياتنا المتحكمة غير المستقرة.

وبعبارة اخرى، تتصف سلسلة بناء الفهم العادي للنص بالتنازل؛ بدءاً من القبليات، ومروراً بفهم الكل، ومن ثم انتهاءاً بفهم الجزء. لكن حالة الاصطدام بفشل التوقع – او ما يسمى بالخيبة - يجعل السلسلة تعمل على بناء ذاتها بشكل معكوس، وهو ما نسميه (تصاعد الفهم)، اذ أن فهم الجزء يصبح عائقاً أمام فهم الكل، فيعمل الأول على تغيير الثاني لينضم تحت لوائه، كما أن الثاني قد يصطدم بالقبليات غير المستقرة، فيعمل بدوره على تغيير هذه القبليات ليتقبل حاكميتها.

لكن هل يمكن لفهم الجزء أن يغير القبليات مباشرة من دون مرور بفهم الكل؟ وهل يمكن للقبليات أن تتحكم بفهم الجزء من دون وساطة فهم الكل؟

نرى أن ذلك يستحيل فعله، فلا بد من وساطة فهم الكل، سواء في التغيير او في البناء والتحكم. فكما عرفنا ان فهم الجزء لا بد من ان ينضوي تحت لواء فهم الكل، ومن ثم فان تغيير القبليات لا يحصل الا بفعل فهم الكل مباشرة.

ونذكّر بأننا نفترض – فيما نحن بصدده من علاقة فهم الكل بالجزء - أن يكون القارئ قارئاً (متميزاً) يراعي كل خصوصيات النص اللغوية من غير ابتسار، وإلا فقد يمارس بعض المثقفين قراءات مبتسرة انتقائية يُسقطون خلالها مفاهيمهم الآيديولوجية من دون اهتمام بمسار النص وجزئياته. فهم – في واقع الأمر – يقرأون ذواتهم لا النص. ففي المجال الديني قد يعتمد بعضهم على نص أحادي، او جملة نصية محددة، ويفسر الدين من خلالها دون لحاظ ما يعارضها من جمل نصية اخرى، وهو ما يكثر لدى القراءات الايديولوجية. كأن يعتمد البعض على اية السيف – مثلاً - ليفسر من خلالها موقف الاسلام الحربي من المشركين كافة، او يقوم بالعكس فيعتمد على بعض آيات المسالمة ليبين التسامح الديني للاسلام قبال المشركين وغيرهم من الطوائف. وكلا الطرفين لا يراعي النصوص الاخرى المعارضة.

على أن الجمل النصية تختلف - فيما بينها - في التأثير على الفهم، فبعضها اقوى من البعض الاخر ايضاحاً وتصريحاً. وتجمّع دلالاتها على فهم الكل يعبر عن حاصل تفاوت القوة والتأثير الذي تتضمنه القرائن الإحتمالية للجمل والمقاطع، كالذي يحصل مع ظواهر الطبيعة، اذ تختلف دلالاتها في كشف الحقيقة والتفسير طبقاً لاختلاف قرائنها الاحتمالية، اعتماداً على الاحتمالات المتباينة غير السوية. فمثلاً يلاحظ ان القرائن المتعلقة بتفسير نشأة الارض من الشمس تختلف في قيمها الاحتمالية، مثل قرينة ان عمق الارض وباطنها ساخن جداً، وان هناك اشتراكاً بين الارض والشمس في العناصر ونسب وجودها، وان حركة الارض حول نفسها تدور بنفس اتجاه حركة الشمس حول نفسها، أي من الغرب إلى الشرق، وغير ذلك من القرائن المختلفة التي تناسبها قيم احتمالية متباينة غير متماثلة[6].

لهذا فقد تكون لبعض الجمل قدرة على تحويل فهم الكل من مسار الى اخر، رغم وجود العدد الكبير من القرائن الاحتمالية الدالة على المسار الاول. فكل ذلك يعود الى ما تحمله كل جملة من تفاوت في القوى الاحتمالية على الفهم والوضوح. ومع انه يمكن لجملة واحدة أن تدل على نفي المسار او فهم الكل؛ لكن ذلك لا يمكن أن يحدث من دون ارتباطها بسائر جمل النص. وبالتالي فإن تحويلها لفهم الكل انما يعتمد على فهم كل اخر. بمعنى أنه ما كان للتحويل ان يكون لولا لحاظ المقارنة بين فهم الجملة وسائر الجمل الاخرى. وبالتالي فلولا الاختلاف والتباين الحاصل ما كان للمعنى والفهم ان يتشكل..

والملاحظ ان النص يختلف عن الطبيعة في هذه الناحية، فجمل النص محدودة بخلاف حوادث الطبيعة وظواهرها. وعليه كان من الممكن لجملة واحدة نفي فهم الكل المستمد من سائر الجمل، خلافاً لما يحصل في علم الطبيعة. اذ لو اعتبرنا النص غير محدود، وان هناك جملاً نصية لم نطلع عليها بعد؛ فسيكون حال النص كالطبيعة، حيث ليس بمقدور الجملة النصية على نفي المسار وفهم الكل المدعم بالقرائن الكثيرة، مثلما ليس بمقدور الحادثة الطبيعية الشاذة على تكذيب النظرية المدعمة بالشواهد الكثيرة. اذ يرد احتمال ان تكون هناك جمل نصية تفنّد الفهم المنتزع من الجملة المعارضة، وتؤيد ما عليه المسار وفهم الكل السابق. ويظل المجال مفتوحاً.

فمثلاً لو كانت الجمل النصية تعبر عن الفهم العرفي، ثم ظهرت بعد ذلك جملة معارضة دالة على المعنى الرمزي، فقد يتحول الفهم في هذه الحالة من المسار العرفي الى المسار الرمزي. لكن هذا التحول يعتمد على ما للنص من حدود. اذ لو كان النص محدوداً فإن التحول يمكن ان يكون ذا دلالة معنوية كافية على المسار الرمزي. أما لو كان النص غير محدود، بمعنى ان هناك جملاً لم نطلع عليها بعد، ففي هذه الحالة يظل الاحتمال وارداً حول قوة ما تحمله تلك الجملة المعارضة ازاء فهم الكل. والمثال الشاخص على ذلك ما جرى في علم الطبيعة حول النظريات المتعلقة بالفيزياء، وما اصاب علم الفلك من شذوذ، كما في نظرية نيوتن، وكيف ان من الممكن الدفاع عنها استناداً الى نقص معلوماتنا بوقائع الطبيعة غير المحدودة، وهو ما يشكل رداً على نظريات التكذيب القطعية. فالممارسة العلمية معقدة لا يمكن اختزالها بالظواهر المتماثلة البسيطة كالذي يجري في تعميماتنا مثل القول بان كل بجع ابيض، وعند لحاظ البجع الاسود ينتفي التعميم ويكذب، وهو ما كان يراهن عليه كارل بوبر في تقريبه للبناء العلمي وفقاً للتكذيب.

وقد يفسر ما يحصل في الفهم والعلاقة بين الجزء والكل بأنه يفضي الى الدور. فالعملية الاستقرائية تعتمد على الجملة النصية ليعرف مسار النص إن كان قائماً على الفهم العرفي مثلاً او لا، وفهم الجملة النصية محكوم بدوره بذلك الفهم، فيصبح الكل منتزعاً من الجزء، والجزء محكوماً بالكل، وهو دور، لتوقف كل من الفهمين على الاخر. وكذا يقال الأمر ذاته عند تحديد الأنساق الكلية والنظريات العامة للنص، فهي منتزعة من الجمل النصية، في الوقت الذي تتحكم في تحديد معاني هذه الجمل.

والجواب على ذلك يتلخص بوجود نوعين من الفهم للجملة النصية، احدهما لذاتها وبغض النظر عن غيرها من الجمل، والاخر مرتبط بغيرها. فالمعنى المتولد عن الاول، هو غير المعنى المتولد عن الثاني، بل ان المعنى الثاني يؤثر في الاول. وما يحصل في العملية الاستقرائية هو من النوع الثاني، اي من حيث ارتباط الجمل بعضها بالبعض الاخر ضمن السياق العام، ومنه يتبين عند كثرة القرائن ان المسار العام للنص مثلاً هو مسار دال على الفهم العرفي لا غير. ولا شك ان المسار المذكور لا يمكن معرفته وتحديده عبر جملة واحدة فقط، اذ قد تكون هذه الجملة رمزية المعنى، او لها معنى مجاز، وهي كجملة واحدة تبدي احتمالاً ما نحو المعنى العرفي مثلاً، لكن تواجد امثالها من الجمل يعطي انطباعاً عن المسار العام للنص إن كان محدداً بالمعنى العرفي او غيره. وكلما زادت النصوص زاد فهمنا للمسار باضطراد. ويصبح المعنى الدال على المسار منتزعاً من جمل نصية متعددة، اذ يضيف كل منها بعض القرائن الخاصة بالمسار، لكن مع اجتماع الجمل وكثرة القرائن يتولد المسار العام ويصبح معناه غير المعنى الخاص بكل جملة نصية على حدة. فهو يفيد معنى عاماً مشتركاً للكل، او لدى الغالب الاعظم من النص وفقاً للقرائن الدالة عليه، وتشير بذلك الى الفهم العرفي مثلاً دون غيره من الافهام. وهو ما لا يمكن تحديده عبر جملة لحالها. فاذا أشارت هذه الجملة الى احتمال ما ازاء المعنى المذكور؛ فانها لا تفيد القطع بذلك. والعلة ان القرائن الدالة على المعنى لا تفيد القطع في جملة واحدة فقط، انما يعتمد الامر على عدد من الجمل المترابطة لينتزع منها ذلك المعنى بكثرة القرائن الاحتمالية الدالة عليه. لذا يصبح تحديد الجملة النصية وارداً بعد تحديد المعنى المشترك العام، كالفهم العرفي، حيث يكون من السهل تفسير الجملة وفهمها وفقاً لذلك الفهم دون الفهم الرمزي مثلاً، والاخذ بالاستظهار دون التأويل او الاستبطان مثلاً. وفي هذه الحالة ينتفي الدور، وتكون الاسبقية لفهم الكل دون الجزء، وللارتباط المعرفي الخاص بالجمل ككل دون الجملة ذاتها.

كذلك يصبح من الواضح ان فهم الكل متحكم بفهم الجزء، فلولا الاول ما كان يمكن تحديد الثاني، في حين ان فهم الكل لا ينتزع من فهم الجزء لنقع بالدور، انما هو منتزع من الارتباط المعرفي المشترك للكل، وهو ارتباط لا علاقة له بالجزء كجزء. فما يدل على الكل هو القرائن الاحتمالية لدى الجمل، حيث ينتظمها ناظم مشترك للمعنى، وهو المعنى المستمد من العلاقة بين الأجزاء لا الأجزاء ذاتها.

وينطبق هذا الحال على انتزاع الأنساق والنظريات العامة عبر القرائن الاحتمالية المختلفة، وذلك بعد تحديد المسار العام للنص، حيث تصبح هذه الأنساق والنظريات متحكمة بفهم الجملة النصية، وإن كان لهذه الجملة من حيث ارتباطها بغيرها لا ذاتها دور في تحديد المعنى العام للنسق والنظرية كما اسلفنا.

وما سبق ينطبق على ادراكنا لظواهر الطبيعة، حيث لا يمكننا تفسير الظاهرة الطبيعية دون العودة الى القوانين العامة والنظريات الكلية. فالحادثة الفردية لا تفسر الا من حيث افتراض بعض القوانين العامة التي تتحكم بها.

مع ذلك يلاحظ ان القوانين العامة والنظريات الكلية تقوم على لحاظ الوقائع المفردة، وان هذه الوقائع محكومة بدورها من حيث التفسير بتلك القوانين والنظريات، فيصبح الجزء معتمداً على الكل، وكذا العكس، وهو دور. فمثلاً اذا اردنا ان نعرف خاصية معدن معين إن كان يوصل التيار الكهربائي ام لا، فانه يمكن اختباره، وعبر ذلك قد نصل الى نتيجة مؤداها ان له تلك الخاصية. لكن السؤال هو: كيف يصح لنا هذا الاستنتاج، مع اننا لا ندري إن كانت صفة التوصيل للمعدن سوف تظل ام تزول؟ فلكي نثبت النتيجة ونتأكد من أن للمعدن تلك الخاصية على الدوام؛ لا بد من ان نستعين بقاعدة عامة تخول لنا امضاء هذه النتيجة، وبدونها لا يمكن الحكم على المعدن بشيء، وتنص القاعدة بأن الحالات المتشابهة تفضي الى نتائج متماثلة، وهي ما تعرف بقاعدة التناسب او الانسجام. ومع ذلك فإن هذه القاعدة هي بدورها نتاج ملاحظات سابقة لظواهر الطبيعة كشفت عن كونها مضطردة لا تتغير. في حين يلاحظ في القبال ان قبول اعتبار ظواهر الطبيعة مضطردة لا تتغير، وهو المعبر عنه بقانون الاضطراد، محكوم للقاعدة الانفة الذكر، بمعنى اننا لكي نقبل كون الطبيعة مضطردة على الدوام لا بد من ان نفترض قبل ذلك صحة قاعدة التناسب، والا كنا على شك من قانون الاضطراد، وهكذا يدور الدور.

أما الجواب على ذلك كله فيعتمد على ما للاحتمالات العقلية من دور في تأسيس تلك القاعدة، سواء من حيث صدق انطباقها او ترجيحها. فهذه الاحتمالات ليست مستمدة من القاعدة ولا من التجارب والخبرات الماضية كي نقع في الدور، على ما فصلنا ذلك في (الاستقراء والمنطق الذاتي). وفي جميع الاحوال يلاحظ ان الكل متحكم بالجزء ومقدم عليه، سواء على مستوى معرفة الواقع والقوانين العلمية، او على مستوى فهم النص؛ كالنص الديني وغيره.

 

 

 



[1]           الجرجاني: دلائل الاعجاز.

3]     غادامير: فلسفة التأويل، ص126. والتأويل بين السميائيات والتفكيكية، ص78.

[4]       ريكور: نظرية التأويل، ص125.

[5]     انظر:            werner g. jeanrod : theological hermeneutics, 1991, london, macmillor, p61-62

[6]           انظر كتابنا: الاستقراء والمنطق الذاتي، القسم الثالث، فصل: وجهة نظر جديدة في الاحتمال.

comments powered by Disqus