يحيى محمد
ليس هناك منهج معرفي خالص عند ممارسته عملية الفهم الديني، فكل منهج معرض للزيادة والنقصان عبر تطفل بعض العناصر الاجنبية التي تُحدِث مفعولها في عملية الفهم ولو على حساب عناصر اخرى ضمنية تعود الى ذات المنهج المعول عليه. لكن هذا التطفل والتداخل لا يمنع من غلبة ذلك المنهج وقوة تأثيره على الفهم والتوليد. فالمنهج الاحادي في الفهم محال، اذ لا يمكن بناء منهج جامع مانع من غير ان يتداخل معه منهج اخر او اكثر، مهما كان تأثير هذا الأخير قوياً او ضعيفاً. وبذلك يتحدد كل منهج بحسب اعتباراته النسبية الانفة الذكر.
ويتفرع عما سبق العديد من القضايا. فمن ذلك نحن نعلم وجود نوعين مختلفين من الفهم بحسب ما عليه طبيعة الاعتبارات القبلية التي تفرض على الفهم صيغته المحددة. فهناك الاعتبارات الذاتية للفهم، كما هو الحال مع الطريقة التي تتبعها الدائرة البيانية. كما هناك الاعتبارات العارضة، كما تتجلى في المناهج والدوائر المعرفية الاخرى. ففي الاعتبارات العارضة ان الفهم لا يتسلح بالمناهج العارضة من غير لحاظ دلالات النص وسياقاته اللغوية، وبالتالي فهو يعتمد على درجة ما من درجات المنهج البياني، حيث ان خاصية المنهج الأخير هو الاعتماد على دلالات النص وسياقاته اللغوية. ومن ثم فليس بوسع المناهج الاخرى التنصل من الاثر المنبعث من تلك الدلالات.
فالدائرة العقلية مثلاً تطوع دلالات النص لاحكامها القبلية، وهي بالتالي تستند الى البيان اللغوي لتطويعه بشكل ما من الاشكال، وإن غلب عليها الاثر العقلي. وكذا الدائرة الفلسفية فانها تطوع كسابقتها الدلالات اللغوية لاحكامها الفلسفية، مما يعني انها تعتمد الى حد ما على تلك الدلالات فتوظفها لصالح منظومتها القبلية. ومثلها الدائرة العرفانية.
وحتى الاستبطان الذي تزاوله بعض الدوائر الفلسفية والعرفانية فانه لا يخلو من الاثر الخاص للدلالة اللغوية للنص، عبر ما يعرف بالمناسبة، وهي درجة ضعيفة من البيان اللغوي.
وينطبق الأمر ايضاً على ما تمارسه الدائرة البيانية من فهم طبقاً للاعتماد اللغوي، اذ يستحيل عليها الاكتفاء بالاعتبارات اللغوية الصرفة بعيداً عن مصادر المعرفة الاخرى، كالعقل والواقع. فهي وإن اتخذت الاعتبارات الذاتية في الفهم؛ لكنها لا تستغني عن الاعتبارات العارضة، فتكون مطعمة بغيرها من المناهج الاخرى.
فمثلاً عندما يحاول البياني ان يقرأ النص القرآني: ((إنّك ميّت وإنّهم ميّتون))[1]، فانه لا يعول على اعتبارات حقيقة اللفظ كلفظ، بل يستعين بالواقع الذي يشهد بأن النبي والاخرين كانوا على قيد الحياة عند نزول هذا النص، لذا يرى ان المقصود به هو ان الموت محتم عليهم ولكن بعد حين، استناداً الى كل من البيان اللغوي والواقع.
ويتجلى الحال اكثر عند لحاظ الفارق في القراءة بين النصين القرآنيين التاليين: ((وهو على كلّ شيء قدير))[2]، ((وهو بكلّ شيء عليم))[3]، حيث يقدر البياني في النص الاول ان المقصود في المقدور عليه ليس كل شيء باطلاق، ويرى انه يُستثنى من ذلك امور؛ مثل القدرة على إعدام الذات الالهية لنفسها، او خلق الشريك المكافئ، وما الى ذلك. وهو يلجأ الى مثل هذه الاستثناءات بدعوى ان العقل يحيلها، وبالتالي فانه يعترف - هنا - بمشاركة العقل للبيان في فهم النص. في حين انه في النص الثاني يأخذ بالظهور الاطلاقي دون استثناء، خلافاً لما حصل مع النص الاول. اي انه استدرك حكم العقل الاستثنائي فيما يخص النص المتعلق بالقدرة الالهية، ولم يستدرك مثل ذلك فيما يتعلق بالعلم الالهي، للفارق بين القدرة والعلم. فمع ان البياني يفرق بين القراءتين للنصين الانفي الذكر، حيث استدرك حكم العقل في الاول دون الثاني، لكن حقيقة الأمر انه في كلا الحالين قد اعتمد على العقل بمشاركة البيان اللفظي. فاذا كان اعتماده على العقل في النص الاول واضحاً على نحو الايجاب، فانه كذلك قد اعتمد على العقل في النص الثاني على نحو السلب لا الايجاب. فهو يعرف أن العقل لا يمانع من الظهور مثلما مانع في حالة النص الاول. وبالتالي فهو يعول على العقل في كلا الحالين، ويأخذ بالظهور الاطلاقي عند الموافقة مع العقل كما في النص الثاني، وينفي الظهور عند المخالفة معه كما في النص الاول.
كذلك يرى البياني ولدواعي لغوية وعقلية ان الأصل في قصد المتكلم لكل نص سماوي هو ارادة تفهيم كل من الحاضر المشافه بالخطاب والغائب غير المشافه به. وهو لا يتخلى عن هذا الأصل ما لم تكن هناك دلالة صريحة او قوية في اعتبار النص قد قصد الاول دون الثاني. كما يدرك عقلاً إحالة كون المتكلم قد قصد تفهيم الغائب دون الحاضر.
ويمكن القول انه لا فارق بين البياني وغيره من اصحاب الدوائر المعرفية الاخرى في حمله لجملة من القبليات المعرفية، وانه يستعين بالواقع والعقل كما يستعين غيره بذلك، لكن ما يمتاز به عن غيره هو انه لا يغلّب القبليات على الظهور اللفظي في الغالب، خلافاً لغيره من اصحاب تلك الدوائر، ويرى طريقته تتماهى مع موضوع فهمها بخلاف سائر الطرق الاخرى. فمثلاً لو قارنا بينه وبين من يستند الى القبليات المنظومية، كالدوائر العقلية والفلسفية والعرفانية، طبقاً لقانون العلاقة العكسية لأثر القبليات والنص على الفهم، سنرى ان البياني يغلّب النص على القبليات، بخلاف اولئك الذين يغلّبون القبليات على النص. بمعنى ان البياني لا يعول على قانون العلاقة القوية، مثلما يعول عليها اصحاب الدوائر المنظومية.
ومن حيث الدقة، لا غنى من التمييز بين البيان العام والبيان الخاص، وكذا بين العقل العام والعقل الخاص. فنقصد بالبيان العام مطلق البيان، سواء كان ضعيفاً او قوياً، فانه بهذا يشمل نواحي التأويل والاستبطان، اذ تدل هذه الحالة على تأثير النص او البيان مهما كان ضعيفاً. وقد نعني بالبيان حداً مخصوصاً، كالذي تمارسه الدائرة البيانية ضمن نظام الفهم المعياري، وهو أن له تأثيراً عالياً للبيان اللغوي او النص. كما نقصد بالعقل العام مطلق العقل او التفكير العقلي، سواء كان يمارس من قبل الدائرة العقلية المعيارية او من غيرها، وسواء كانت اعتباراته مشتركة او خاصة. مثلما قد نعني بالعقل ذلك الخاص بالدائرة العقلية ضمن النظام المعياري والتي تحكّم العقل على الفهم دائماً.
وبحسب هذا التمييز لا يمكن الفصل بين التفكيرين العامّين لكل من البيان والعقل عن بعضهما البعض مطلقاً. فلما كان موضوع الفهم عبارة عن نص لغوي، لذا من المحال أن يتحقق هذا الفهم بمعزل كلي عن البيان، أي مطلق البيان ومهما كان ضعيفاً، كما في حالة التأويل والاستبطان. كذلك لما كان الفهم معتمداً على الادراك العقلي في الأساس، لذا كان لا بد لهذا الادراك من التأثير على الفهم، سواء كان التأثير ضعيفاً او قوياً، وسواء كان متعلقاً بحسب اعتبارات بعض الدوائر العقلية كالدائرة العقلية المعيارية او غيرها، او كان يعبّر عن محض الاعتبارات المشتركة لعقول البشر جميعاً.
هكذا فالفهم يتأثر لا محالة بكل من البيان والعقل العامّين كحد أدنى. فمن المحال أن يتأسس الفهم من غير استناد الى هذين العاملين من الاعتبارات. لكن قد تتدخل عوامل اخرى اضافية على الفهم، كتأثير الواقع والوجود وما الى ذلك. كما انه لا حدود لتأثير اي عامل من هذه العوامل، وأن العلاقة في التأثير هي علاقة عكسية طبقاً لقانون الفهم الأول، فكلما قويت بعض العوامل في التأثير ضعف تأثير العوامل الأخرى، والعكس بالعكس.
إذاً فما نقصده من قانون التعدد المنهجي هو قانون العلاقة العامة بين العقل والبيان اللغوي كحد أدنى، فمصدر ذلك التعدد يعود الى اختلاف العوامل المؤثرة على الفهم. فهذا القانون ليس معنياً بالضرورة بالعلاقة التي تخص الدائرتين البيانية والعقلية ضمن النظام المعياري، او غير ذلك من الدوائر المعرفية الخاصة. فقد لا يتأثر الفهم بالبيان المعياري الخاص، ولا بالعقل المعياري الخاص، رغم انه متأسس على الاعتبارات العامة لكل من البيان اللغوي والعقل.
وبعبارة اخرى، يكون البحث في علاقة العقل بالبيان على منوالين، أحدهما يدخل في اطار القوانين الحتمية العامة للفهم، واخرى ضمن اطار القواعد والخيارات الذهنية، كإن يكون البحث دائراً حول العلاقة بينهما ضمن الدائرتين البيانية والعقلية للنظام المعياري، فلكل منهما اعتباراتها الخاصة، فمثلما أن الدائرة العقلية ترجح العقل على البيان في الفهم والمعرفة، تعمل الدائرة البيانية على العكس، وهي أنها ترجح البيان على العقل. وتظل العلاقة بين العقل والبيان لدى هاتين الدائرتين هي علاقة تنافس وتحدّ، لأنها تتقوم بالخيارات الذهنية للقواعد المعرفية القابلة للرد والقبول، فهي من هذه الناحية تختلف عن الوضع الخاص لقوانين فهم النص الديني، بمعنى أنها تختلف عن العلاقة الدائرة بين العقل العام والبيان اللغوي العام كقانون، فهذه العلاقة هي علاقة حتمية تعددية ليس للذهن فيها مجال للأخذ والإختيار، او التحدي والتنافس، او الرد والقبول.
***
وبهذا الصدد نتساءل: هل ان ما قدمناه ينطبق على مناهج المعرفة للادراك وعلوم الطبيعة؟ فهل يسعنا القول بأن ادراك الواقع الموضوعي، ومنه الواقع العلمي، يعتمد على عدد من المناهج المعرفية المختلفة، وانه لا يوجد منهج احادي يمكن استخدامه في الادراك المعرفي والعلم؟
لا شك ان ذلك ينطبق على كلا الامرين: الادراك المعرفي والعلم. فبخصوص ادراك الواقع الموضوعي، يلاحظ ان العملية الحسية لا تفي وحدها في الادراك دون تدخل عدد من القضايا العقلية؛ كمبدأ السببية ومنطق الاحتمالات العقلية الذي تتقوم به العملية الاستقرائية. وبالتالي فإن ذلك يثبت خطأ المنهج التجريبي في نظرية المعرفة (الابستيما). كما ان المنهج العقلي عاجز لحاله عن ان يدل على شيء خارجي دون الاعتماد على الحس والتجربة، وبالتالي فإن كلا المنهجين يستخدم العناصر الداخلة في تكوين الاخر.
ويطال هذا الأمر المعرفة العلمية، فهي لا تعتمد على منهج احادي في التفسير والكشف العلمي. واصبح من المسلم به ان المنهج العلمي يستخدم عدداً من المبادئ المختلفة لقبول نظرية ما وترجيحها على اخرى، كمبدأ البساطة والاقتصاد والجمال وغيرها، يضاف الى انه يزاول عمله طبقاً لقاعدتي التأييد والتكذيب او الاستبعاد، دون ان يلتزم بواحدة منهما على حساب الاخرى. حتى ان كارل بوبر الذي كان يحصر دفاعه عن مبدأ التكذيب عند ظهور كتابه (منطق الكشف العلمي) سنة 1934م، أعاد النظر في دفاعه بعد ثلاثين سنة تقريباً، فبعد ان جدد طبع الكتاب (سنة 1963م) لم يلتزم في دفاعه عن الاساس التجريبي المحض، واخذ يطعّم مذهبه بعناصر اخرى مثل مبدأ البساطة وجدة النظرية وقوة الربط بين الاشياء وتوحيدها، وكذا ما تحمله من مفاهيم جديدة. وقد اعترف بوبر باستحالة ارجاع مبدأ البساطة الى منطق التكذيب، كما كان يفعل من قبل[4].
ورغم ان مناهج ونظم الفكر العلمي مختلفة الا ان بعضها قد يستعين بالبعض الاخر، فقد كان نيوتن مثلاً يظن انه يعتمد على الاداة الاستقرائية في الكشف العلمي، وبالتالي فانه يرفض كل ما يتعلق بالفروض، لكنه مع هذا طرح او قوانينه الخاصة بالعطالة او القصور الذاتي رغم ان هذا القانون لم يستمد من الاستقراء، بل كان فرضاً علمياً.
لكن في جميع الأحوال، سواء في حالة الفهم، او حالة الادراك المعرفي، او العلم الطبيعي، لا غنى من أن تتم العملية المعرفية بفعل عاملين – على الأقل -، تتشكل من كل منهما أداة لمنهج محدد، أحدهما هو التفكير العقلي العام، او مطلق الاعتبارات العقلية، أما الآخر فهو ذلك المتمثل بالاعتبارات الذاتية للموضوع المبحوث، كالبيان اللغوي بالنسبة للنص كما في حالة الفهم، والاعتبارات الحسية والتجريبية بالنسبة للواقع كما في حالة الادراك، والاعتبارات التجريبية المعمقة بالنسبة للواقع العلمي كما في حالة العلم الطبيعي. فحتى النظريات التي تتضمن التصورات الميتافيزيقية للعلم، او تلك الداخلة ضمن النظام الميتافيزيائي التخميني، تكون حاملة للجذور التجريبية والحسية من دون انقطاع كلي.
[1] الزمر/30.
[2] المائدة/120.
[3] البقرة/29.
[4] انظر: Nicholas Maxwell, The Comprehensibility of the Universe, Clarendon Press, Oxford, 1998, p.37-38. كذلك كتابنا: الاستقراء والمنطق الذاتي.