-
ع
+

وظائف علم الطريقة

 يحيى محمد

لكل علم منطق، ويعد علم أصول الفقه اكمل منطق يخص العلوم الإسلامية، ومع ذلك فهذا العلم وغيره من العلوم لم يكن كافياً لعلاج مسألة الفهم الديني والتقييم. صحيح ان هذا العلم حدد المصادر المعرفية للتشريع، لكنه لم يفعل شيئاً إزاء المعايير المعتمدة في الترجيح عند تعارض الفهم ضمن الاطار المعرفي الواحد. فالترجيح المقرر يحصل فيما لو اختلفت المصادر المعرفية أو التشريعية، كإن يرجح نص الكتاب على السنة عند التعارض، أو الاجماع على النص، أو محاولة ايجاد صيغة للجمع تقضي على التعارض. أما ان يكون التعارض يلوح النظريات التي تتأسس ضمن المجال المعرفي ذاته؛ فهذا ما لم يوضع له معيار مشترك واضح، كإن يفهم بعضهم نصاً معيناً بفهم محدد، ويفهم آخر النص ذاته بفهم مخالف مع اشتراكهما ضمن المنهج والنظام الواحد. مما يعني انه لا بد من وجود معايير أخرى تتحكم في ترجيح بعض النظريات على البعض الآخر، إلى الحد الذي يمكن لهذه المعايير أن تتحكم في العلوم الإسلامية، وعلى رأسها أصول الفقه وغيره من العلوم المكتملة. فهي أشمل من هذه العلوم وتخضع لضوابط منطقية يمكن من خلالها قبول النظرية أو رفضها. وبهذا تتبين قيمة العلم الذي يعنى بذلك، وهو ما اطلقنا عليه علم الطريقة.

لهذا يمكن تقسيم معايير التقييم إلى صنفين: مقيدة محدودة وتأسيسية شاملة. وتختص المعايير الأولى بالطريقة المعروفة للعلماء في الأخذ والرد، كالذي يُعنى به أصول الفقه غالباً، مع لحاظ الاختلاف الوارد حول ضوابط الأخذ والرد. فمثلاً ان من العلماء من يتقبل النظرية التي تقوم على مبدأ المصلحة والاستحسان أو القياس وما إلى ذلك، في حين يرفض البعض الآخر مثل هذه القواعد الإجتهادية. كما أن البعض قد يتقبل النظرية القائمة على القواعد العقلية ويرجحها على النص، في حين يفعل الآخر العكس من ذلك. أما المعايير التأسيسية الشاملة فلها صفة الشمول والعموم، وتمتاز الرئيسية منها - على الأقل - بأنها تحظى بقبول (الوجدان العلمي)، ولذلك فإنها تكون موضع إختبار جذري لنظريات الفهم على الاطلاق، وهي بهذا المعنى تتصف بالتأسيس، ولا شك أن بعضها مما يُعنى به أصول الفقه كما سنرى.

وعليه يختلف علم الطريقة عن العلوم الإسلامية حول طبيعة الفحص والتحقيق. فالذي تعتمد عليه العلوم الإسلامية هو مراعاة الأدلة والبراهين بحسب أُطرها المنهجية الخاصة، فمثلاً يعتمد علم الفقه على الأدلة البيانية النقلية، ويعتمد علم الكلام – في الغالب - على الأدلة والبراهين العقلية. أما التحقيق بحسب علم الطريقة فهو أمر آخر مختلف، إذ يعتمد على معايير متعددة يشترك في قبولها الوجدان العلمي، وهو بالتالي لا يعول على المعايير الخاصة كالذي تعوّل عليه العلوم الإسلامية. بل يجعل من المعايير المشتركة محكاً لقبول النظريات أو استبعادها. مع اخذنا بنظر الإعتبار الاختلاف الذي قد يرد حول بعض المعايير إن كانت تصلح أن تكون مشتركة أو خاصة. فربَّ معيار نرى فيه صفة الاشتراك لإعتبارات معينة، في حين يرى آخرون أن له صفة الخصوص. لكن في جميع الأحوال أن هناك معايير تتصف طبيعتها بالاشتراك دون أدنى شك.

ولا تتوقف وظيفة علم الطريقة عند التعامل مع النظريات والأنساق الموجودة طبقاً للتحقيق المعرفي من ترجيح بعضها على البعض الآخر، بل تزيد على ذلك بأن يكون لها الصلاحية في اتخاذ بعض المعايير والضوابط التي من شأنها تأسيس الفهم والبحث المباشر المتعلق بالنص والخطاب، وكأنه إنشاء جديد للفهم.

وبالتالي فهناك معايير وضوابط للترجيح بين النظريات، كما هناك معايير وضوابط لتأسيس الفهم المستحدث مع النص. ويختلف حال التعامل بين النهجين، إذ ان العمل بحسب النهج الأول يتم عبر التعامل مع مختلف الأنساق والنظريات قويها وضعيفها، وكذا مختلف المناهج والنظم المعرفية. في حين يقتصر العمل بحسب النهج الثاني على القيام بانتقاء بعض المناهج، ويجرى هذا الانتقاء طبقاً لأُطر محددة نراها صالحة للإعتماد عليها كمعايير دقيقة للفهم، وليس الترجيح بين النظريات. وكأن المعايير المعتمدة في الفهم أشبه بطريقة الإجتهاد المعول عليها في الفقه، وكذا فالمعايير المعتمدة في الترجيح هي أشبه بطريقة النظر[1].

ويختلف هذا الحال عما يرد في فلسفة العلم. ففي هذه الفلسفة هناك مهمتان تقعان على عاتق فلاسفة العلم، وكلاهما يتعلقان بالتبرير والتفسير دون التأسيس. فمن ناحية يقوم هؤلاء بتفسير آلية الترجيح بين النظريات العلمية بردها إلى ضوابط ومبادئ محددة، وهم بذلك يبررون ما هو جار في العلم دون ان يضيفوا إليه شيئاً من عندهم، فهم لا يمارسون الترجيح بين النظريات العلمية، فذلك ما يزاوله العلم نفسه ولو بطريقة تلقائية. بل كل ما يفعلونه هو تبرير هذه الآلية أو تفسيرها وتأطيرها ضمن مبادئ وضوابط مفترضة. أما من ناحية أخرى فهو أن هؤلاء يقومون بوضع مبادئ وضوابط يقترحونها لتفسير قبول النظرية كنظرية علمية. بمعنى انهم يحاولون ان يميزوا بين النظرية العلمية وغيرها، ضمن ضوابط يفترضونها ويختلفون حولها، ومن ذلك ما تقوم به الوضعية المنطقية من افتراض مبدأ التحقيق (التجريبي) في النظرية العلمية، بمعنى أن أي نظرية لا تقبل الإختبار التجريبي، ولو بصورة غير مباشرة، فهي ليست نظرية علمية، أو أنها – حسب تعبير هذه المدرسة - نظرية بلا معنى[2]. أو مثل ما يراه كارل بوبر حول مذهبه التكذيبي، وهو ان أي نظرية لا يسعها ان تنتمي إلى العلم ما لم تمتلك القابلية على التكذيب.

هكذا يقوم فلاسفة العلم بدورين متكاملين: أحدهما تبرير حالات الترجيح التي يزاولها العلماء بين النظريات العلمية، أما الآخر فهو تفسيرهم للنظرية العلمية ذاتها، فأي النظريات تعد علمية وأي منها ليست كذلك؟ وهم في كلا الدورين ليسوا معنيين بقبول النظريات ورفضها، فهم لا يمارسون الترجيح بين النظريات، كما أنهم ليسوا معنيين بتقرير إن كانت النظرية المطروحة علمية أو غير علمية. بل كل ما يفعلونه هو تبرير وتفسير ما يقوم به العلماء من الترجيح والقبول. وبذلك فإن غرض فلسفة العلم لا يتجاوز تبرير وتفسير ما هو جار في الوسط العلمي من الترجيح والقبول، وبالتالي فهي ليست معنية بوضع الضوابط والمعايير لتأسيس النظريات والمناهج الجديدة التي يُفترض اتباعها في العلم، رغم ان بعض العلماء قد يتقيد بالرؤية التي يقدمها فيلسوف العلم احياناً، ومن ذلك العمل وفق طريقة كارل بوبر التكذيبية، وقبلها وفق الرؤية المنطقية الوضعية لدى الكثير من العلماء، لكن ذلك لم يحد من ان يتنامى الموقف العام للعلم دون ان يؤطر بمنهج خاص للبحث. على ذلك فلحد الآن ما زال فيلسوف العلم لم يؤثر تأثيراً ملحوظاً على الحركة العلمية، وبقي دوره يعنى بالوصف والتبعية للنتاج العلمي دون ان يتمكن من ان يفرض على العلم مواقف معيارية، أو يقدّم له قواعد ووصفات لما ينبغي ان يكون. وقد اظهرت التطورات الأخيرة ان النمو العلمي اخذ يمتد لقضايا لم تكن مقبولة على مستوى القواعد التي يصنفها فلاسفة العلم في تصورهم لطبيعة المعرفة العلمية، بل ولم تكن مقبولة حتى لدى العلم ذاته، وكانت تُصنف ضمن الطرح الفلسفي أو الميتافيزيقي، ومع ذلك فإنها اخذت تستشري وتتسع يوماً بعد آخر.

لكن الحال في علم الطريقة مختلف، فهو لا يفسر ويبرر فحسب، بل ويضع ما هو جدير للتأسيس ويبحث عما يلزم إبقاءه من المناهج والنظم، وما يستحق الإهمال لعدم وفائه بالدقة المطلوبة، اعتماداً على الإتساق مع الحقائق الأصلية للخطاب الديني، وهي الحقائق التي لا يمكن أن تخطأها العين الفاحصة، والتي بدونها يتحوّل الدين إلى شيء آخر مختلف، لا سيما ما يتعلق بنظرية التكليف وما تتضمنه من المحاور الأربعة. فعدم الاتساق مع الحقائق المشار إليها قد يفضي إلى حصول نوع من القطيعة المنطقية، وهي تختلف عن تلك التي شهدها العلم الحديث، إذ كانت قطيعة هذا الأخير مع ما قبله من العلم القديم تاريخية، طالما لم يعد للعلم القديم وجود يعترف به في العالم.

مع هذا فسنواجه مشكلة تتعلق بنوع الضوابط والمعايير التي ينبغي اتخاذها في الرفض والقبول والترجيح. فقد نعد بعض المعايير مما يلزم اتخاذها، في حين يخالفنا آخرون في ذلك. فالمشكل الذي نواجهه هنا يتعلق بمشروعية المعايير المتبناة، وهو مشكل يعالج ضمن ما أطلقنا عليه (فلسفة علم الطريقة). فمثلاً قد يرد الاختلاف حول مشروعية تطبيق مبدأ البساطة على نظريات الفهم الديني وترجيح بعضها على البعض الآخر، وكذا الواقع في بعض أبعاده. لكن في جميع الاحوال لا غنى من فتح بساط البحث والتحقيق حول هذه الضوابط والمعايير وما ينتابها من مشاكل واعتراضات ضمن فلسفة علم الطريقة، وهو أمر شبيه بما حصل في علم أصول الفقه، إذ لم يستطع تجاوز الخلاف الحاصل في ما ينبغي اتخاذه من قواعد للإجتهاد وإستنباط الأحكام الشرعية أو الفقهية. ومع ذلك فهناك من المعايير ما لا يمكن الاستغناء عنها؛ بإعتبارها من القواعد المؤسسة للعلم والفهم. فرفضها يفضي إلى رفض العلم والفهم معاً، كما هو الحال مع قاعدة الإستقراء وعدم التناقض. كما ان من المعايير ما لو تخلينا عنها فسوف يفقد النص مصداقيته وحجته، مثلما هو الحال مع معيار الحقائق الموضوعية المستمدة من الواقع. وكذا فإن من المعايير ما لو تخلينا عنها فسيفضي بنا الأمر إلى رفض الحقائق الأصلية للخطاب الديني، كنظرية التكليف. فتعطيل هذه النظرية أو نفيها أو الصدام معها من قبل المفكرين والباحثين، يشابه المحاولات الجارية لدى بعض علماء الطبيعة لنفي الواقع الموضوعي أو التشكيك بوجوده. مع أن كلاً منهما يعد من المسلمات التي بدونها يفقد العلم والفهم قيمته.

أدوات التحقيق المعرفي

هناك فارق هام بين المعرفة والتحقيق المعرفي، فقد يلتقيان وقد يفترقان. فالاعتماد على المعطيات المباشرة للواقع - مثلاً - هو معرفة محققة يتفق عليها الجميع ولا تشك بها النفوس. وفي القبال قد تكون هناك معرفة تتقبلها النفوس رغم أنها غير محققة كالاولى. فمثلاً كان الناس يعتقدون منذ آلاف السنين بأن الأرض ساكنة، معوّلين في ذلك على الإحساس الذاتي، وهو عدم الشعور بالحركة، الأمر الذي جعلهم يتقبلون مثل هذه المعرفة رغم انها ليست محققة. كذلك قد يصادفنا فيض من الروايات ذات دلالات معينة، وهي بحكم هذا الفيض أو التراكم المعرفي تتقبلها النفوس بقوة، رغم انها قد لا تكون محققة كالاولى. مما يعني أن المعرفة سواء كانت محققة أو غير محققة تؤثر في النفوس، وقد يكون تأثير الأخيرة أقوى عليها من الأُولى. وفي جميع الأحوال أن لكل منهما إعتباراته الخاصة، فإذا كان للمعرفة المحققة مبرراتها المنطقية والعقلية؛ فإن المبررات التي تقبع خلف المعرفة غير المحققة تتصف بأنها نفسية أكثر مما هي منطقية أو عقلية. ولو أن الانسان فطن إلى عامل الوثوق والتحقق لكان الموقف في التأثير والقبول مختلفاً، ولأخذ بالمعرفة الأُولى مع التشكيك في الثانية.

وللتحقيق المعرفي مراتب مختلفة، مثل التحقيق في القضايا المباشرة وغير المباشرة، أي التحقيق في القضايا الحسية وغير الحسية ومنها الميتافيزيقية، وايضاً التحقيق في القضايا التاريخية والقضايا المعاصرة، فدرجات المعرفة والإحتمال تتباين بين هذين النوعين من القضايا وفقاً لنظرية الإحتمال وقوة القرائن الدالة. فمثلاً ان التواتر التاريخي للحوادث لا يمتلك القوة المعرفية لما يماثلها من الحوادث المعاصرة، ففي التواتر التاريخي من المستحيل التعرف على كل الملابسات والظروف التي تكتنف رواية الحادثة، وبالتالي قد يكون فيها ما يوهم التواتر، فأبلغ ما يمكن الاعتماد عليه هو كثرة ما وصلنا من النقول المختلفة والتوثيق، مع ان ذلك قد يورد إحتمال التزوير والدس والاختلاق وربما مؤامرة السلطة والحركات المنظمة لتوظيف الذين يقومون بمهمة الوهم التواتري. وليس الحال كما يحصل في الحوادث المعاصرة بإعتبارها يمكن ان تخضع للإختبار وحتى المشاهدة الفعلية ايضاً، ومع ذلك فقد يصاب التواتر في القضايا المعاصرة بالوهم بفعل التلقين اللاشعوري تحت ضغط التأثير الاجتماعي كالذي يستشهد عليه غوستاف لوبون ببعض الشواهد في كتابه (الاراء والمعتقدات)، منها ما نقله عن قول احد دعاة المذهب الروحاني ماكسويل: «يلقن الحاضرون بعضهم بعضاً فلا يلبثون ان يكون عندهم هوس جامع، ومما سمعته ان احد الحضور اشار إلى انه يرى نوراً في جهة معينة فالتفت الباقون ورأوا ما رآه، ثم اعلن رجل انه يشاهد صورة فشاهد الاخرون ما شاهده، هذا هو هوس الجماعة، وقد أيدت لي تجاربي الشخصية ان حاسة البصر هي أكثر الحواس استعداداً لقبول الانطباعات الوهمية»[3].

ومن المعلوم انه ليس كل قضية ناجحة أو صحيحة تعتبر محققة معرفياً، فقد يتفق الكشف عن القضية الصحيحة صدفة وإن لم يمارس فيها التحقيق، مثل التنبؤات الاعتباطية الناجحة التي لا تستند إلى الأساس العلمي ومنطق الإحتمالات، فهي على شاكلة من يراهن بالقطع واليقين على ظهور احد وجهي قطعة نقد مرمية، وهو فعل غير مبرر بإعتباره لم يخضع للمنطق وان صادف النجاح. ولهذه القضية شواهد كثيرة نواجهها في حياتنا العملية، بل والدينية ايضاً.

ومثلما ينطبق أمر التحقيق المعرفي على مسائل الإدراك والقضايا العلمية وما إليها، فإنه ينطبق كذلك على الفهم الديني. إذ تارة يرد الفهم، وأخرى يرد التحقيق فيه، والفارق بينهما واضح. وعادة ما يمارس العلماء كلا هذين النمطين من المعرفة.

ويمكن تصنيف التحقيق الذهني بإطلاق، سواء في العلم أو الفهم أو غيرهما، إلى ثلاثة أصناف من حيث النتيجة: مطابق يقيني، ومبرر، ومخمّن. ويتميز التحقيق المطابق بتطابق التصور الذهني مع الموضوع الخارجي، سواء كان هذا الموضوع هو الكون والعالم والطبيعة وما إلى ذلك من أمور خارجية، أو كان عبارة عن النص الذي يتعلق به الفهم الديني، أو غيره من النصوص البشرية. في حين يتميز التحقيق المبرر باستناد نتائجه إلى المبررات الكافية لقيامه دون بلوغ مستوى اليقين أو تطابق الحكم الذهني مع الموضوع الخارجي، سواء في العلم أو الفهم أو غيرهما من المجالات والأنشطة الذهنية. أما التحقيق المخمّن فنتائجه تخلو من المبررات الكافية للتعويل عليه من الناحية المنطقية أو الموضوعية لدى المجالات المشار إليها. فعلى صعيد العلم تتصف علاقة الحكم الذهني بالموضوع الخارجي بضعف المبررات التجريبية والعقلانية، ومثل ذلك على صعيد الفهم، حيث تتصف العلاقة بأنها تمثل تأويلاً بعيداً أو استبطاناً رمزياً أو غير ذلك مما يفتقر إلى دعم المعطيات اللغوية أو النصية أو الوجدانية. ونجد سواء في حالة التحقيق المبرر أو المخمّن أنها تتضمن مراتب لا حدود لها، وذلك خلافاً لحالة التحقيق المطابق اليقيني.

وما يهمنا من هذه الأصناف الثلاثة هو التحقيق المطابق والتحقيق المبرر دون الصنف الثالث المخمّن؛ باعتباره يفتقر إلى المبررات الموضوعية الكافية للأخذ به والتعويل عليه.

يبقى أن أول المبادئ التي ينبغي اتخاذها للتحقيق في الفهم الديني هو مبدأ المراجعة المتواصلة، وذلك بافتراض ان القضايا المطروحة للفهم، ومثلها سائر مسائل التحقيق، هي قضايا يختلط فيها الخطأ مع الصواب، لذا كان من الضروري تعريضها إلى المراجعة المستمرة للكشف عن حدود الصحة والدقة أكثر فأكثر.

ويعد مبدأ المراجعة مهماً في العلوم الطبيعية، وبعضهم جعله معياراً للفصل بين العلم الحديث والعلم القديم. فقد اعتبره الاستاذ (رايت) سر التقدم والعامل الذي فصل العلم الحديث عن القديم جذرياً. فأصبح من المسلم به ان الإختلاف الأساسي بين العلمين ليس لإعتبار نتائجهما من الصواب والخطأ، بل لكون العلم الحديث اعتمد على منهج الفحص والمراجعة المستمرة دون أن يعتمد عليه العلم القديم أو يوليه أهمية، إذ كان هذا الأخير يعد النظرية التي يصل إليها تمثل حقيقة قاطعة ونهائية لا تحتاج إلى فحص جديد[4]. وعليه فبفضل المراجعة والتحقيق رُجحت نظرية كوبرنيك على نظرية بطليموس في النظام الشمسي، وقد أُعتبر ذلك حداً فاصلاً بين العلمين، حيث لم ترجح النظرية الأولى على الثانية طبقاً للصواب والخطأ، بل استناداً إلى مبدأ البساطة، فرغم الاعتراف بان نظام بطليموس كان بارعاً ومتقناً ودقيقاً إلا انه نظام معقد للدوائر الرئيسية والثانوية مع اختلاف انصاف الاقطار والسرع وغير ذلك[5].

مع هذا تفترض المراجعة معايير ومبادئ يتم على ضوئها التحقيق. ولدى الفهم الديني يمكننا البحث حولها؛ فنتساءل هل أنها تتم وفقاً لبيان النص، أو تبعاً للأخذ بإعتبارات الواقع، أو العقل أو غير ذلك؟

بادئ ذي بدء، يُفترض أن نقدّم بهذا الصدد مبادئ واضحة يمكن الاتفاق عليها. فتحديدنا لمعايير التحقيق يعتمد على ما هو مشترك من القواعد والأصول، أو ما هو موثوق به وغير قابل للطعن. وبذلك نتفادى كل ما يعود إلى الاسقاطات والقبليات المنظومية الخاصة؛ بإعتبارها ليست من القضايا التي يشترك في قبولها المحققون، وانها تحتاج إلى الأدلة الواضحة التي يتقبلها الوجدان العلمي.

وما نطرحه لا يقتصر على المنحى الأبستيمي. إذ هناك نزعة براجماتية فيما نعوّل عليه أحياناً عند تحديد الضوابط والمعايير المتخذة للترجيح والتحقيق، ومنها معيار الواقع والوجدان العام. وبالتالي فإن المعايير المعوّل عليها لا تقتصر على النص وحده، إذ لا فائدة من هذا النص إن كان يتصادم مع الواقع ويتناقض معه، أو كونه لا يراعي حقوق الواقع من المصالح والمضار. وتعد مثل هذه الأمور من الافتراضات (الميتافيزيقية) التي لا غنى عنها.

صحيح انه قد يُعترض على ذلك بأن ما ذُكر من قضية المصالح والمفاسد وكذا ما يتعلق بالوجدان العام، وما يرتبط به من قضايا لها علاقة بالعدالة والمقاصد والتكليف، كلها تعد نتاجاً لقواعد اكبر يتحدد عليها الفهم، ويقابلها قواعد أخرى تعطي نتائج مضادة أو مختلفة، كالذي تتبناه النظرية الاشعرية، فهي لا تسلم بتلك الافتراضات ولا تعترف ببداهتها طبقاً لمنطقها في (حق الملكية) كما فصلنا ذلك خلال الحلقة الرابعة لمشروعنا المنهجي، وذلك ضمن (النظام المعياري).

والجواب على ما سبق هو ان هذه النظرية قد ابتليت بمأزق أوصلها إلى التعارض مع نظرية التكليف، وهي من هذه الناحية أفضت إلى أن تتصادم مع اولى الحقائق الأصلية التي دلّ عليها النص الديني بالإستقراء من دون معارض. وهذه الدلالة تشابه من وجه ما يفترضه العلم الطبيعي من وجود حقائق دالة على الواقع الموضوعي، فتعامل العلم معها هو بإعتبارها حقائق موضوعية وليست ذاتية، وكذا هو حال التعامل مع دلالات النص في الفهم الديني، وذلك بإعتبارها تتضمن صوراً للتكليف وليس نفياً له.

كذلك قد يُعترض على ما ذكرناه من أن لقاعدة المصالح والمضار نزعة افتراضية ميتافيزيقية. فقد يقال كيف ذلك مع أن بالإمكان إثبات هذه المصالح والمضار من خلال النص، كالذي تقوله نظرية المقاصد الشرعية؟

والجواب هو أن إثبات قاعدة المصالح والمضار من خلال النص لا يتنافى مع كونه افتراضاً ميتافيزيقياً، بمعنى أنه حتى لو لم يكن بالامكان إثبات ذلك؛ فلا غنى من افتراضه، لأن بدون هذا الافتراض تصبح علاقة الدين بالانسان بلا غرض معقول، وربما تكون خلاف ما يتطلع إليه هذا الكائن، كإن يدعو الدين إلى المضار وينهى عن المصالح.


[1]           انظر حول الفارق بين الإجتهاد والنظر في الفقه: الإجتهاد والتقليد والاتباع والنظر، الفصل السادس.

[2]           انظر:             Kyburg, H. E. Probability and Inductive Logic. U.S.A, 1970, p. 48-49. 

[3]           غوستاف لوبون: الآراء والمعتقدات، ص191.

[4]                                                                                                                                                   انظر:                        Wright, The Origins of Modern Science, The structure of Scientific Thought, p. 15.

[5]           انظر:             Hemple, Philosophy of Natural Science, current printing, USA, p. 41

comments powered by Disqus