-
ع
+

آليات قراءة النص الديني (1): آليات الاشارة

يحيى محمد

تمهيد

لا بد من التمييز بين عدد من المفاهيم لها علاقة بقراءة النص (الديني) وفهمه. فلدينا ما يُطلق عليه النص والظاهر والباطن والتأويل والتفسير وما الى ذلك. وقد اعتاد علماء التفسير والخطاب الديني ان يتعاملوا مع نوعين من قراءة النص، احدهما يعبر عن حمل النص على معناه البيّن او الظاهر1، والاخر يطلقون عليه التأويل، وهو حمل النص على غير ظاهره، كما هو اصطلاح المتأخرين. وبالتالي لا توجد هناك الية اخرى للقراءة غير هاتين الآليتين، كذلك لا يوجد غير مستوٍ واحد من القراءة، وان هذه القراءة بوسعها ان تكون مستقلة ومفصولة مبدئياً عن التحديدات المعرفية القبلية او القبليات بكافة أشكالها. والحال ان العلاقة بين المفاهيم السابقة تختلف عندنا، وان هناك اكثر من آليتين، بل واكثر من مستوٍ للقراءة، وان هذه القراءة لا يمكن فصلها عن القبليات، وان للنص ظهوراً اخر غير الظهور اللفظي المتعارف عليه، وانه اعتماداً على الموقف من هذين الظهورين تتحدد نوع الالية التي تستخدم في القراءة..

ولاجل الكشف عن هذه الامور نبدأ بتقسيم مستوى القراءة الى مرحلتين او نوعين من الآليات كالاتي:

آليات الاشارة

اذا ما كان للنص ظاهر يفهم معناه فهذا يعني - من وجهة نظرنا - ان هناك ثلاثة عناصر ضمنية بعضها يتقوم ويتأثر بالبعض الاخر، ولها علاقة بصياغة وتحديد هذا الظاهر، ونطلق عليها بكل من الظهور اللفظي والسياق والمجال. كذلك هناك عنصر رابع خارجي يخص المحددات القبلية، او التأسيس القبلي للنظر، او القبليات المعرفية التي لها دورها الفاعل في تحديد معنى ذلك الظاهر.

ولدى البيانيين والأصوليين ان الظهور اللفظي هو عبارة عن حمل اللفظ على الحقيقة وعلامتها التبادر. والمقصود بالتبادر هو انسياب المعنى الى الذهن مباشرة عند قراءة اللفظ او سماعه. ولا شك ان التبادر في حمل اللفظ على المعنى له اسباب قد تكون مختلفة بين شخص واخر. فقد تكون أسباب الاختلاف شخصية ذاتية، كما قد تكون عامة، وقد تختلف رقعة هذه الأخيرة ودائرتها بين جماعة واخرى؛ تبعاً لسلطة الدوائر المعرفية ونظمها القبلية؛ كالمعنى الذي يتبادر للمتأثرين بالاجواء الفلسفية التقليدية من لفظ النص الديني، ومثلهم المتأثرون بالاجواء العلمية الطبيعية حالياً، فقد يتبادر المعنى من لفظة (العلم) او لفظة (العلماء) الواردتين في القرآن الكريم بذلك المتداول لدى العلوم الطبيعية (science)، مثلما يتبادر من قوله تعالى: ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ))2. وقد يكون سبب التبادر له علاقة بالوضع الشرعي كما في لفظة الصلاة، او الى الضرورات الحسية، او الى كثرة الاستخدام والعرف كالذي يركز عليه البيانيون والاصوليون، وهو كثرة استعمال اللفظ على المعنى المخصوص، فيتخذ اطاراً عرفياً، وهم بهذا يقسّمون الحقيقة اللفظية الى لغوية وعرفية وشرعية، وبالتالي قد يختلف التبادر من عرف لآخر، او من مكان لآخر ومن زمن لآخر، ومن ذلك ان لفظ (التقاطع) في بلاد المغرب – اليوم - له ظهور دال على الاتفاق، في حين انه في المشرق له ظهور دال على التعارض3، وهو الموافق للمعاجم اللغوية.

وهنا لا بد من لحاظ جملة امور كالتالي:

اولاً:

إن ما يقال بأن الظهور اللفظي لا يكون الا عند حمل اللفظ على الحقيقة وعلامتها التبادر؛ هو امر غير صحيح اذا ما أُخذ على اطلاقه. فهو لا يصدق الا على اللفظ المفرد او المنعزل عن النص، اي ذلك الذي ليس له علاقة بسائر الألفاظ والعلاقات القائمة بينها. فلو أُخذ اللفظ ضمن دائرة الألفاظ وسياقها فإن كلاً من الظهور وتبادر المعنى سوف لا يتوقفان على ما للفظ من حقيقة. وبعبارة اخرى انه لا يوجد تلازم بين الحقيقة اللفظية وبين الظهور، وكذا لا يوجد تلازم بينها وبين التبادر، حيث لا مانع من ان يعبر الظهور اللفظي عن المعنى المجازي بالتبادر، اذ قد تتدخل بعض القرائن القبلية المنفصلة بالعمل على صياغة وتحديد المعنى اللفظي تبعاً لمنبهات القرائن اللفظية والسياقية.

فبفعل التنبيه الذي يثيره سياق النص مع ما للألفاظ الاخرى من دلالات؛ قد ينساق الذهن مباشرة الى حمل اللفظ على المجاز، فيصبح الظهور معبراً عن المعنى المجازي لا الحقيقي. وبالتالي فالحقيقة لا تساوق الظهور، او ان احدهما لا يدل على الاخر، فقد لا تعبر الحقيقة عن الظهور، وكذا الظهور عن الحقيقة، مع اخذ اعتبار ما للقرائن المنفصلة - سواء كانت نقلية او خارجية او عقلية - من دور في تحديد الظهور اللفظي.

فمثلاً في الايتين القرآنيتين: ((((واسأل القرية التي كنّا فيها والعِير التي أقبلنا فيها))4، ((وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة))5، نجد للفظة (القرية) ظهوراً للمجاز كما ينبه عليه مجرى السياق، اذ لو حملناها على الحقيقة لكان من الصعب فهم ما تعنيه الايتان، اذ كيف يمكن ان نسأل القرية وهي ليست من الكائنات الحية والعاقلة؟ لكن بفعل ما يختزنه الذهن من القبليات المعرفية، مثلما يتمثل بالضرورة الحسية، فإن ما يتبادر من المعنى مباشرة هو اهل القرية وليس القرية ذاتها.

هذا فيما لو استبعدنا الرأي الذي ذهب اليه القليل من العلماء كابن تيمية الذي قال بأن القرية هنا تأتي بمعنى الساكنين6، ضمن مذهبه المعروف بنفي المجاز في النص الديني والأصل اللغوي7، وكالذي اشار اليه – من قبل - الراغب الاصفهاني (المتوفى حدود سنة 450هـ) من ان البعض ذهب الى ان معنى القرية هو القوم أنفسهم، ومما نقله بهذا الصدد أن بعض القضاة دخل على علي بن الحسين رضي الله عنهما فقال: أخبرني عن قول الله تعالى: ((وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة))8؛ ما يقول فيه علماؤكم؟ قال: يقولون إنها مكة، فقال: وهل رأيت؟ فقلت: ما هي؟ قال: إنما عني الرجال، فقلت: فأين ذلك في كتاب الله؟ فقال: ألم تسمع قوله تعالى: ((وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله))9، وقال: ((وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا))10.. الخ11.

وعلى هذه الشاكلة يمكن لحاظ الشيء نفسه في قوله تعالى: ((فوجدا فيها جداراً يريد ان ينقض فأقامه))12، حيث ظهور الاية لم يأت بحسب حمل جميع الألفاظ على الحقيقة والتي منها لفظة (يريد)، فعلاقة الألفاظ ببعضها تسمح لان يكون للجدار ارادة، وهو امر لا يعقل كما تدل على ذلك الضرورة الحسية. وعليه فأول ما يتبادر للذهن هو حمل معنى الارادة في هذا السياق على المجاز. او قل ان تبادر الظهور في الاية، كما ينبه عليه السياق، هو حمل اللفظ على المعنى المجازي تبعاً للمخزون الذهني من الضرورة الحسية.

هكذا فسواء في هذه الاية او ما قبلها هناك تبادر للظهور في المعنى المجازي وليس الحقيقي. فالمجاز سابق - في هذه الحالة - على الحقيقة من حيث الفعل الذاتي او الادراك، وهو غني بالمعاني والثراء مقارنة بالحقيقة. وان كان من الناحية الانثروبولوجية لا يمكننا تقدير ان يكون المجاز سابقاً على الحقيقة، فالأولمتطور عقلياً ولغوياً مقارنة بالأخيرة. فلا مجاز من غير حقيقة لغوية. فهي الاصل الذي نشأ عليه الثراء المجازي، ولولا هذا الثراء، لكانت جامدة ضيقة الافق لا تتعدى الادراكات الحسية المكتسبة. واذا كان للعقل دور في التجلي غير المحدود فانما يعود فضله للغة المجازية، بمعنى ان لهذه اللغة الفضل في اظهار قابليات العقل غير المحدودة.

وبحسب المعنى النسبي للتبادر، فان الظهور اللفظي كثير ما يتأثر بالثقافة العصرية، فمثلاً قد يكون للفظ معنى متبادر للذهن وقت نزول النص، سواء كان ذلك لاعتبارات المعنى العرفي او الشرعي، وقد يستمر هذا التبادر للمعنى ردحاً من الزمن، لكنه قد يتبدل الى تبادر معنى آخر للفظ بفعل تطورات اللغة والثقافة. ومن الامثلة على ذلك مفهوم «الحكم» كما في قوله تعالى: ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ.. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ))13، حيث يتبادر الى أذهان الكثير من الناس ان معنى الحكم في هذا النص وغيره من الايات هو ذلك المتعلق بالسلطة السياسية او بما يتضمنها ويشملها، وكأن هناك نظاماً محدداً لهذه السلطة دينياً، كالذي تفهمه بعض الحركات الاسلامية المعاصرة، مثلما جرى عليه ابو الأعلى المودودي وسيد قطب وغيرهما14، في حين ليس للمعنى علاقة بالجانب المذكور. فمن حيث السياق وعدد من الروايات ان المعنى مرتبط بالاحكام القضائية المتعلقة باهل الكتاب من اليهود والنصارى، واغلب التفاسير تشير الى هذا المعنى. وعلى هذه الشاكلة ان الفاظاً وردت في القرآن الكريم، من قبيل التفقه والاستنباط والتأويل لها معان هي غير ما اصطلح عليه العلماء فيما بعد.

ولا بد من التمييز بين التبادر الاولي المباشر والمتأثر بثقافتنا العصرية، وبين التبادر التحقيقي المعتمد على تحقيق النص لغوياً وخارجياً، اي تبعاً لاعتبار السياق الخارجي كما تحدده علاقة النص او اللفظ بالواقع الذي نشأ فيه. فبعد التحقيق قد يصبح للفظ او النص ظهور هو غير ذلك الظهور الساذج المرتبط بثقافتنا المعاصرة. فقد تتناغم النصوص مع المعطيات المعاصرة فيبدو لاول وهلة وكأن المعنى المتبادر هو ذاته الذي نستلهمه من هذه الثقافة المركوزة في عقل القارئ.

ثانياً:

اذا كان للسياق دور منبه في تبادر المعنى والظهور اللفظي، سواء بالنسبة للحقيقة او المجاز، فإن له دوراً مماثلاً في تحديد المعنى الذي يخص الحقيقة بتجلياتها المختلفة. فالحقيقة اللفظية كما يمكن الاشارة اليها بنحو حسي مثلاً، فانه يمكن الاشارة اليها - كذلك - بروح المعنى العام الذي يشمل ما هو حسي وغير حسي. فقد يُحمل اللفظ ضمن سياق ما على اعتبارات الجانب الحسي لحقيقة اللفظ، كما قد يُحمل ضمن سياق اخر على جانب معنوي لنفس تلك الحقيقة.

فمثلاً قد يتبادر لنا في الكلام العادي معنى الميزان بانه هذا الميزان المحسوس، لكنّا عندما نقرأ قوله تعالى: ((ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تُظلم نفس شيئاً))15، او قوله: ((وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط))16؛ فانه لا يتبادر لنا هذا الميزان، وانما يتبادر شيء اخر، استناداً الى السياق والألفاظ الاخرى، واعتماداً على ما عليه القبليات المعرفية. وبالتالي فليس للفظ حقيقة مشخصة واحدة، فحيث ان له علاقات وارتباطات بسائر الألفاظ؛ فإن ذلك يُكسبه المعنى المناسب تبعاً لما تفضي اليه القبليات المعرفية. مما يعني انه بفعل السياق وهذه القبليات يمكن تخصيص الظهور للمعنى المشترك العام من اللفظ. ففي مثالنا السابق لا يختلف الميزان المحسوس عن ذلك الميزان الذي تحدثت عنه الايتان تمام الاختلاف، بل بينهما وحدة معنوية مشتركة تجمع ما بين الطرفين، شبيه بالذي تحدثت عنه (نظرية المشاكلة) العائدة الى بعض العرفاء والاشراقيين من الفلاسفة17، وكذا ما عوّل عليه جماعة من البيانيين لتبرير موقفهم من اثبات الصفات الالهية بلا كيف، كما هو الحال مع مدرسة ابن تيمية. فكلا الطرفين اعتبر ان للفظ معنى مشتركاً يجمع بين الحسي والمعنوي، ومن خلال هذا المعنى يمكن فهم القضايا الغيبية عبر الامور الحسية، ولولاه ما كان من الممكن فهم ذلك. وبالتالي فكلاهما يقيمان الفهم وفقاً للظاهر اللفظي، وهما يعترفان بأن معنى اللفظ يظل مشتركاً وعاماً يحدده السياق العام للنص، إن كان يتحدث عن أمر حسي شهودي أو معنوي غيبي. وكلاهما يقرّان - حسب هذا الفهم - بأن الصفات الإلهية تحمل على ظاهرها وأن معناها يفهم دون تأويل، وأن لهذا المعنى بعض الشبه بما عليه الشاهد المحسوس، مع بقائه محكوماً بقاعدة (ليس كمثله شيء)18.

وعموماً ان ما سبق يجعلنا نتعامل مع الظهور اللفظي للحقيقة على مستويين. او قل ان ذلك يفرض علينا ان نتعامل مع الحقيقة اللفظية تبعاً لمعنيين: احدهما عام؛ لِما يحمله من روح المعنى بلا خصوص، والاخر خاص؛ لِما يحمله من المعنى المشخص لذلك العموم.

ومن حيث الترتيب المنطقي لا بد من ان يستبق المعنى الاول الثاني، وان الثاني يتضمن الاول. اي ان الحقيقة بالمعنى الخاص لا تكون كما هي عليه بهذا الوصف ما لم تكن في الوقت نفسه، بل وقبل ذلك، عبارة عن حقيقة عامة مشتركة. ففي البدء يفترض - بحسب التجوز المنطقي - انها كانت حقيقة مشتركة ثم تشخصت بمعنى محدد. وبالتالي فعند تشخصها تكون قد هيئت المجال باتجاه تفسير النص، خلافاً لما هي عليه قبل التشخيص.

فمثلاً: عندما نريد ان نعرف معنى اليد ضمن احد النصوص المقروءة ونشخصها بهذه اليد الجارحة؛ فذلك يعني اننا من حيث الترتيب المنطقي نفهم بان اليد عبارة عن عضو حي يستخدم في الإمساك والصنع والتكوين، ولا يستخدم في السمع والابصار مثلاً، وفي حدود هذا المعنى الأخير يكون فهمنا لليد هو بمعناها العام المشترك، اي ذلك الذي لا يفيد في حد ذاته المعنى الخاص، كاليد الجارحة.

لكن عندما نخطو خطوة اخرى فنشخص معناها بهذه الجارحة او بغيرها وفق ذلك المعنى المشترك؛ فاننا في واقع الأمر قد هيئنا الأمر باتجاه تفسير النص الذي احد مضامينه اللفظية هو هذا اللفظ المبين. علماً بأن المعنيين قد يتحدان من الناحية العملية؛ بحيث يتبادر لدينا بصورة المعنى الخاص من غير مرور بالمعنى العام، وذلك عندما يعبر التبادر عن درجة قوية من الوضوح تبعاً للسياق والقبليات المعرفية، كالذي يظهر بكثرة استعمال المعنى.

لكن في احيان اخرى قد يتضح المعنى العام دون الخاص، وانه للوصول الى هذا الأخير نحتاج الى جهد من الاجتهاد؛ تبعاً لاعتبارات مضافة من القبليات المعرفية، ومن بينها القبليات التي تتصف بالرؤى المنظومية، مثل التحديدات الوجودية للفلاسفة والعرفاء، كما تعرضها (نظرية المشاكلة).

ثالثاً:

يمكن المقارنة بين الألفاظ والسياق من حيث العلاقة بينهما على الصعيدين المعرفي والثبوتي. فمن الناحية الثبوتية ليس للسياق اي ثبوت من غير الألفاظ، والعكس ليس صحيحاً، حيث قد تكون الألفاظ موجودة مستقلة ومنعزلة بلا اي سياق او علاقات، لكنها لا تشكل نصاً، فميزة النص بسياقه، وان السياق هو تلك العلاقة القائمة بين الألفاظ، وبالتالي فإن تحديد وضع السياق يعتمد على ما عليه الألفاظ، فاي تغير في هذه الألفاظ يبعث على تغير السياق او العلاقات.

أما من الناحية المعرفية فإن المتكلم يضع ألفاظه في سياق خاص ليدل به على ما يريد من مقصد، وبالتالي يمكن بالسياق فهم ما يراد من الألفاظ إن كانت تُحمل على الحقيقة او المجاز او الرمز، وكذا فإن به يمكن حمل اللفظ على ما هو مألوف من المعاني الحسية والوجدانية، او على أبعاد اخرى معنوية مجردة. ولو تغير السياق لافضى ذلك الى تغيير المعنى، كإن يبدل اللفظ من محل الى اخر. فحتى في حالات التغير الطفيف للسياق فإن ذلك قد يغير شيئاً ما من المعنى؛ كالذي لاحظه علماء البلاغة، ومن ذلك الفارق بين القولين: (زيد كالاسد) و(كأن زيداً الاسد)، فرغم ان كلا القولين دالان على التشبيه، لكن في القول الثاني هناك زيادة في المعنى على القول الاول؛ وهي انه دال على «فرط شجاعته وقوة قلبه، وانه لا يروعه شيء، بحيث لا يتميز عن الاسد، ولا يقصر عنه، حتى يتوهم انه اسد في صورة ادمي»19.

رابعاً:

قلنا ان للسياق دوراً في تحديد المعنى الذي ينبغي اختياره للفظ؛ سواء بحسب المجاز او الحقيقة. واذا جاز لنا التمثيل، يكون دور السياق بمثابة العلة المادية او الشرطية التي تهيء للعلة الفاعلية القيام بوظيفتها في تحديد المعنى وتعيينه. ونقصد بالعلة الأخيرة؛ القبليات المعرفية مثلما تتمثل بالقرائن المنفصلة، اذ يتم بها انتقاء المعنى الذي يناسب السياق ويتسق معه، سواء كان هذا المعنى مأخوذاً بحسب الحقيقة او المجاز. بل ان مجرى السياق والألفاظ الاخرى قد تبدي من الايحاءات ما هو اكثر من ذلك في بعض الاحيان، فهي قد تفتح باب الاشارة للمعنى الرمزي للفظ، وذلك بحمل (المجال) على المجاز واغفال (المجال) بمعناه الحقيقي، كالذي يمارس في القصص الرمزية، مثل تلك التي يتداولها العرفاء.

لكن ما معنى المجال وما علاقته باللفظ والنص؟

نقصد بالمجال (الظاهر) نوعاً من المحور النصي يدركه كل من اراد فهم النص، سواء استطاع تحديد القراءة ام لم يستطع، وسواء عمل وفق الظهور اللفظي للنص ام لم يعمل، وسواء احتمل نوعاً من القراءة ام انه توقف كلياً دون ادراك ما هو المقصود من النص. فكل ذلك لا يخل بفعل ادراك المجال العام له، وهو المحور الخاص بدلالاته المجملة اللفظية والسياقية. فمثلما يكون للنص دلالته اللفظية المفصلة ضمن علاقاته السياقية؛ فإن له كذلك دلالته المجملة المختلفة عن الدلالة اللفظية (المفصلة).

وعلى العموم ان للنص ظهورين: لفظي ومجالي. فقد نتوقف - مثلاً - ازاء ما يعنيه قوله تعالى: ((الرحمن على العرش استوى))20، فمع إننا قد لا نعرف بالضبط ما يراد بهذا النص القرآني، لكننا مع ذلك ندرك المجال الذي يتحدث عنه النص، فهو لا يتحدث عن الخبز والشعير، ولا عن الانسان والحيوان، ولا عن طبيعة العلم والحياة، ولا عن القضايا المطروحة حالياً كالاصالة والمعاصرة وحقوق المرأة وشؤون السياسة والاوطان وغير ذلك.. انما يتحدث عن نوع من العلاقة التي تربط الله بشيء اطلق عليه العرش، فهل هذه العلاقة هي كعلاقة الملوك بعروشهم؟ وهل ان العرش - هنا - هو نفس ما نتصوره من مفهوم جسمي؟ وكذا هل معنى الاستواء هو ما نفهمه من الظاهر المتبادر في الذهن ام شيء اخر؟ فسواء حددنا نوع القراءة او لم نحدد اي شيء من ذلك، وتوقفنا كتوقف الامام مالك او اشد منه، فإن مجال النص والقراءة هو مجال حاضر لا يغيب، ولو لم يكن حاضراً لكنّا قد استعنا بمجالات اخرى كتلك التي افترضناها وهي ابعد ما تكون عما يعنيها النص، كمجال الخبز والشعير!

إذاً ان ادراك المجال لا يتوقف على فعل تحديد القراءة. فحتى لو كان هناك نوع من التحفظ في ابداء اي نوع من القراءة والفهم المحتمل، فإن ذلك لا يشكل عقبة دون ادراك المجال، طالما امكن معرفة ما تدور عليه الأحداث اللغوية بالاجمال والعنوان العام. مما يعني ان شرط ادراك المجال هو معرفة مثل هذا العنوان، فلو لم يدرك لكان النص معبراً عن الخفاء والغموض التام، مثلما هو الحال مع قراءة الحروف المقطعة في اوائل سور النص القرآني، فهي مبهمة المعنى اجمالاً وتفصيلاً، عنواناً وأحداثاً، وبالتالي فإن المجال فيها مبهم غير ظاهر.

من جانب اخر، سبق أن عرفنا بأن تحديد الظهور اللفظي يعتمد على السياق والقبليات المعرفية. لكن ماذا بشأن المجال؟ هل يعتمد هو الاخر على ما ذكرنا ام انه امر اخر مختلف؟

للإجابة على ذلك لا بد من ان نعرف أولاً بأنه لما كان المجال يستمد ظهوره مما عليه الألفاظ وسياقها، او انه منتزع من كل ذلك على نحو الاجمال، فلا بد ان يكون هو الاخر مستند الى ما تبديه القبليات المعرفية تبعاً للممارسة اللغوية المألوفة او المتعارف عليها. فالمجال يعبر عن المعنى المجمل للموضوع المطروح على بساط البحث من النص اللغوي. او انه عبارة عن ذلك الظهور في المعنى العام للمحور الذي يتناوله النص؛ والذي يتشكل مما نفهمه من الاجمال الكلي للألفاظ وسياقها، بحيث تتميز لدينا طبيعة المحور الذي يطرحه النص وان لم نتمكن من قراءته قراءة تفسيرية او اشارية، بل يكفينا معرفة العنوان العام الذي تدور حوله الاحداث اللغوية للنص. والأمر شبيه بما يحصل من تبادر للمعنى المجالي عند النظر الى عناوين الكتب والمقالات، حيث تنبؤنا - غالباً - عن طبيعة ما تتضمنه هذه الدراسات وإن لم نقرأها ونطلع عليها بعد.

فضلاً عن ذلك، علينا لحاظ ان الظهور المجالي هو ظهور يعبر عن الادراك المجمل للكل، وهو الادراك الذي يستبق ادراك الاجزاء، فمنه يبدأ تحديد مفاصل الاجزاء المتمثلة بالدلالات اللفظية. وهو بذلك اشبه بالصيغة الجشطالتية التي يتقدم فيها الكل على الاجزاء، ولا يساوي هذا الكل مجموع اجزائه، كما ان قوانينه تختلف عن قوانينها. وكذا الأمر بالنسبة للمجال، فهو لا يعبر عن مجموع الدلالات اللفظية، كما ان الظهور فيه هو ليس من الظهور اللفظي (المفصل)، وادراكه يحصل بالتبادر المباشر، وهو سابق في ظهوره لظهور الدلالات اللفظية، بل ان حضوره شرط في تحديد هذه الدلالات، رغم انه متوقف في وجوده على وجود الالفاظ والسياق.

ويمكن التمثيل على ذلك بادراكنا لوجه شخص نقابله اول مرة، فنحن ندرك صورة عامة مجملة كلية للوجه قبل البدء بالتفاصيل. ففي البداية لسنا نتصور الاجزاء لنؤلف منها الكل الخاص بالصورة، او اننا لا نقوم بالتقاط صور مجزئة لنركب الكل منها، فلا نعمل على تجميع صور الانف والفم والجبهة والعينين والخدين وما الى ذلك لنؤلف منها صورة مركبة هي شكل وجه هذا الشخص. بل تأتي هذه التفاصيل متأخرة عن تصور الوجه ككل، رغم انه من الناحية الموضوعية، او من حيث الواقع، تكون الاجزاء سابقة للكل. فالكل مؤلف من اجزائه، ولولا هذه الاجزاء ما تشكل هذا الكل، وبالتالي فالسبق الموضوعي يكون للاجزاء لا للكل. لكن من حيث الادراك الصوري فان العكس هو الصحيح. فعلاقة الكل بالجزء هي كعلاقة الماهية بالوجود، اذ تتقدم ماهية الشيء على وجوده في الادراك المعرفي، لكنها تتأخر عنه من حيث الحقيقة الموضوعية، فلولا الوجود ما كان للماهية وجود. فنحن نتحسس بالشيء كصورة في ذهننا أولاً قبل أن نعلم حقيقة ما هو عليه إن كان له وجود في الخارج أو ليس له وجود، فإن كان له وجود فهو سابق على صورته من حيث الواقع، لكنه متأخر عنها من حيث الادراك.

يبقى ان للدلالة اللفظية نوعين من التفصيل، احدهما مجمل مقارنة بالاخر، فتارة تكون الدلالة اللفظية بمستوى الاشارة، واخرى بمستوى التفسير او الايضاح كما سنعرف، وان الاشارة تعد مجملة مقارنة بالاخير. أما المجال فهو غير هذين الأمرين. ولنقل ان لدلالة المجال من الظهور هي غير الظهور اللفظي بكلا مستويه الاشاري والتفسيري او الايضاحي، وانه يعد مجملاً مقارنة بهما، مثلما أن الاشارة مجملة مقارنة بالتفسير او الايضاح كما سيتبين لاحقاً.

خامساً:

من ناحية اخرى إن للمجال ظهوراً بحسب الحقيقة او المجاز؛ مثلما ان للفظ ظهوراً بحسب الحقيقة او المجاز، وعلامة هذا الظهور هو التبادر في كلا الامرين. فسواء كان التبادر يشير الى المعنى المجالي الحقيقي كما تبديه ألفاظ النص وسياقها، او كان يشير الى المجال المجازي والرمزية الظاهرة في النص، ففي كلا الحالين نحن امام ما نطلق عليه الظهور المجالي او المجال الظاهر. فمثلاً ان للقصص الرمزية للعرفاء دلالات بادية للفظ والمجال، لكنها ليست مرادة بذاتها، وانما ترمز الى ما ورائها من المعاني الباطنية بحسب القبلية الوجودية، لذلك فهي من هذه الناحية لها ظهور يختلف عن تلك الدلالات البادية، وهو ما نسميه الظهور الرمزي والمجالي، فالرمزي من حيث اعتبار اللفظ رمزاً لمعنى باطن هو غير الدلالة البادية سواء كانت حقيقة او مجازاً، والمجالي من حيث اعتبار المجال ليس ذلك المأخوذ من المعاني البادية للألفاظ، وانما من ذلك المرموز اليه. فمثلاً في قصة (حي بن يقظان) لابن طفيل نجد ان مجال القصة ليس هو المجال الحقيقي، بل مجال مجازي، وان الظاهر فيه هو الظاهر الرمزي، فكل من يطلع على القصة – وبمعزل عن مقدمة المؤلف - يدرك تماماً أن المؤلف لا يتحدث عن أحداث واقعية، بل يرمز بها الى امور اخرى فلسفية وعرفانية، وان أبطال القصة ليسوا اشخاصاً واقعيين، كما لا يقصد بهم أفراداً معينين، انما يراد بهم اتجاهات نوعية محددة من المذاهب الفكرية.

ويبدو المجال المجازي واضحاً عندما تتوارد الفاظ النص المتسقة باضطراد نحو مجال اخر هو غير المجال الحقيقي من دون مفارقات.

ولا شك ان هذا النوع من المجال الظاهر هو على الضد من المجال الاخر الذي نطلق عليه المجال التأويلي او الباطني، فالاخير يقطع الصلة بين الدال والمدلول، ولا يجد ما يدل عليه بحسب القرائن الدلالية للنص وايحاءاتها. وفيه يكون القارئ متوجهاً نحو ربط كل شيء باي شيء، وكل نص باي نحو من الانحاء من غير ظهور ولا ملازمة، فالدلالة النصية في واد، والمعنى الاخر في واد، كالذي لا يفهم من النصوص جميعاً سوى انها ترمز الى الخبز والشعير، فيرى في لفظة الدائرة - مثلاً - بان لها معنى الخبز لكونه دائري الشكل، ويرى في لفظة الرمل بانه يرمز الى الشعير باعتباره مكوناً من الحبيبات المنفصلة. فهو اشبه بالحاق مناطق جغرافية من دولة الى اخرى بعيدة دون لحاظ الحدود الفاصلة بين الدولتين... وكل ذلك دال على تحويل المجال واستبداله بمجال اخر باطني. وهو امر شائع استخدامه لدى الباطنية والعرفاء عند قراءتهم للنص الديني.

فمثلاً في قوله تعالى: ((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ))21، ان معنى الوالدين - حسب المجال الباطني - هو العقل والطبيعة، وان معنى البيت هو القلب، وان المؤمنين والمؤمنات هم العقول والنفوس. كذلك في قوله تعالى: ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً))22، إذ ورد بان معنى (البر والبحر) يشير الى الادراكات الحسية والعقلية، وان (الطيبات) هي العلوم اليقينية، كما ان تكريم الانسان يشير الى ما خص الله تعالى الانسان بالنفس الناطقة. وفي القصص القرآني جاء في اية القاء موسى في التابوت ورميه في اليم كما في قوله تعالى: ((إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى، أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ))23، أن التابوت عبارة عن الناسوت او الجسم الانساني، وان اليم هو العلم، والقائه في اليم هو اشارة الى ما حصل للانسان من بلوغ العلم بواسطة هذا الجسم، فلولا الجسم ما كان للنفس من القوى الفكرية والحسية والخيالية التي هي مصادر هذا العلم24.

سادساً:

لو عدنا الى النص القرآني: ((واسأل القرية))؛ فعادة ما يحمل القارئ المفردة الاولى - من المفردتين في النص المذكور - على الحقيقة، وهي مفردة (واسأل)، في حين يحمل مفردة (القرية) على المجاز. لكن لماذا لا يكون العكس، او حتى حمل المفردتين معاً على المجاز؟

والجواب هو ان تحديد هذه المعاني بحسب المجاز او الحقيقة والعلاقات الدائرة بين معاني المفردات؛ تتوقف كلها على ما يتم اختياره للمعنى المناسب طبقاً للمرتكز الذهني للقبليات المعرفية، وهو المعنى الذي تتوفر فيه سمات المعقولية وعدم التعقيد وكذا الاتساق الخالي من التناقض والغموض، وذلك ضمن نفس المجال الذي يبديه النص.

فمثلاً لو ان إمكانات حمل مفردة (القرية) تتحدد بثلاثة احتمالات، ومثلها مفردة (واسأل)، وان المزاوجة بين الامرين تتخذ اصنافاً شتى هي تسعة بحسب هذه الإمكانات، فمن الممكن ان نجد من بين هذه الاصناف ما هو غير متسق ولا معقول، كما قد نجد منها ما يخرج عن المجال الذي يبديه النص، وقد نجد من المزاوجات الممكنة ما هو معقول ومتسق وداخل ضمن المجال الظاهر العام. ولا شك ان المعنى الأخير هو الذي سيتبادر الى الذهن عادة، اتساقاً مع ما تشهده الضرورة الحسية.

وكمثال اخر على ذلك ما جاء في قوله تعالى: ((وجعلنا من الماء كل شيء حي))25، اذ لا يمكننا في هذه الحالة حمل ما ورد في الاية على الحقيقة المشخصة، بل اننا سنضطر الى ترجيح احد خيارات ثلاثة معقولة، منها خياران يقبل كل منهما الحمل على المجاز او التأويل، حيث إما ان يكون المجاز والتأويل متعلقاً بالماء، فيكون المعنى ان الماء الذي خلق الله منه كل شيء حي هو عنصر اخر غير هذا الماء الطبيعي، كإن يكون المقصود منه الوجود او مرتبة عليا من المراتب الوجودية، اذ من المستبعد ان يكون الجن وكذا الملائكة مخلوقين من هذا الماء الطبيعي. او يكون المجاز والتأويل متعلقاً بلفظة (كل شيء حي)، حيث تُحمل على كل الاشياء الحية الطبيعية دون غيرها من الكائنات الاخرى، كالجن والملائكة وما اليها. كما هناك خيار ثالث، وهو حمل الماء على روح المعنى العام ثم تشخيصه بغير المعنى الحسي، فهو ليس هذا الماء الطبيعي الذي تقوم به حياتنا، بل يمكن ان يُحمل على الماء الصوري الذي يسري في كل شيء سريان الماء او الروح في الاجسام، كالذي ذهب اليه بعض العرفاء26. ولا شك ان جميع هذه الخيارات مبررة تبعاً للقبليات المعرفية كما هو واضح.

وفي جميع الاحوال هناك عوامل مختلفة ترجح خيارنا لمعنى النص، كطبيعة السياق ونوع الألفاظ وما عليه القبليات المعرفية؛ ومنها الضرورات الوجدانية والتنمية الاحتمالية. ويجري العمل بكل ذلك وفق المنطق اللاشعوري. فالالية التي يعمل بها الذهن البشري هي الية تعتمد لا شعوراً على التصفية والانتقاء من الإمكانات الكثيرة المتعددة. وهي بهذا الفعل تميل في الغالب الى الخيارات التي تتسم بالمعقولية والاتساق، طبقاً لضغط القبليات المعرفية وعلى رأسها تلك التي تتصف بالتنمية الاحتمالية.

او لنقل ان الالية الذهنية تعتمد على النشاط الباطني التلقائي من هذه التنمية، وذلك عندما تجد نفسها امام عدد مختلف من القرائن التي تلف حول معنى محدد دون غيره من المعاني الاخرى. ولما كان هذا النشاط التوليدي هو نشاط منطقي منظم؛ اطلقنا عليه (نظام التوليد اللاشعوري). وسمة النظام فيه واضحة وفقاً لما يمتاز به من العمل الالي المخطط تبعاً للاصول المقررة. واذا كان الكثير يتصور ان النشاط اللاشعوري تغلب عليه الممارسات غير المنطقية؛ فإن واقع الأمر هو العكس تماماً، فاغلب نشاطه هو من النوع المنطقي المنظم، واليه يعود الفضل في كون تفكيرنا وسلوكنا يتميزان عادة بطابع الاتساق27.

وطبقاً لما سبق، لو تضمنت القبليات المعرفية قرائن عديدة تدل على كون النصوص الموضوعة لا يراد منها ما يراد من الألفاظ المستخدمة في المحاورات العادية، بل تدل على امور اخرى لا تستكشف بحسب التفاهم العرفي، فإن الذهن البشري سيلجأ حينها الى حمل الألفاظ على دلالات اخرى تمتلك من المجال المجاز ما هو غير المجال الحقيقي، اي ان ما يتبادر الى الذهن بالظهور هو ذلك المجال المجازي، في حين يستبعد المجال الحقيقي عن المعنى الظاهر، فتكون الألفاظ دالة بذلك على الطبيعة الرمزية. وقد لجأ الفلاسفة والعرفاء الى مثل هذا الفعل في قراءتهم للنص الديني، تبعاً للقرائن التي اعتمدوها ضمن قبلياتهم الوجودية، لكن الفارق - هنا - هو ان القرائن التي اعتمدوها هي قرائن خاصة بهم دون غيرهم، فليس لها ذلك العموم الذي يلجأ اليه كل من اراد فهم النص خارج نطاق الخلفيات والمنظومات الفكرية المحددة.

نعم سيحدث الأمر الأخير فيما لو ان ايحاءات النص تلوّح بقرائن عديدة الى الرمزية والباطنية دون المعاني المألوفة. ففي هذه الحالة سيتبادر الى الذهن المعنى الدال على الظهور الرمزي والمجال المجازي. وكذا لو كانت القرائن المنفصلة المنقولة دالة على حمل الألفاظ على الرمز، والمجال على المجاز، فإن ذلك سيؤثر في قراءتنا للنص، اذ يمكن حمله على الرمز والمجال المجاز وفق القياس والتمثيل.

هكذا يختزن الذهن البشري من التجارب السابقة ويستجمع القرائن القبلية مع ما يضاف الى القرائن الحالية والمقامية؛ ليصبها جميعاً في اطار فهم النص، فهذه هي ملكة الذهن التي تستجمع ما امكنها من الآليات المعرفية المناسبة في فهم ما يراد من النص بحسب ألفاظه وسياقه. وعلى هذه الشاكلة يكون تعامل الذهن مع القضايا الكونية.

سابعاً:

نستنتج مما سبق وجود اربعة انماط من الظهور اللفظي مع نوعين من الظهور المجالي، فضلاً عن وجود السياق. والانماط الاربعة للظهور اللفظي هي:

1ــ نمط المعنى المشترك العام للحقيقة اللفظية. ونطلق عليه الظهور الحقيقي العام، مثل المعنى العام للفظ (الميزان).

2ــ نمط المعنى الخاص للحقيقة اللفظية. ونطلق عليه الظهور الحقيقي الخاص، مثل المعنى الخاص للفظ (الميزان).

3ــ نمط المجاز الظاهر، او الظهور المجازي، مثل المعنى المجازي الظاهر للفظ (القرية) في قوله تعالى: ((واسأل القرية التي كنّا فيها)).

4ــ نمط الرمز الظاهر، او الظهور الرمزي، مثل المعاني الرمزية الظاهرة في قصص الفلاسفة والعرفاء كقصة حي بن يقظان.

وما عدا هذه الانماط فاللفظ لا يفيد الظهور، بل إما يفيد المجاز البعيد (التأويل)، او الرمز البعيد (الباطن). أما الظهور المجالي فهو عبارة عن كل من النوعين الحقيقي والمجازي، وان ما يخالف هذين النوعين نسميه المجال الباطني.

وبعبارة اخرى، في النص لفظ وسياق ومجال، وان اللفظ ينقسم في المعنى الى ثلاثة أنواع، هي المعنى الظاهري والتأويلي والرمزي. وان للمعنى الظاهري اربعة انماط سبق عرضها. كما ان المجال ينقسم الى ما هو مجال ظاهر ومجال باطن، وان الاول يتشعب الى صنفين هما المجال الحقيقي والمجال المجازي.

فهذه هي آليات المرحلة الاولى من قراءة النص، ونطلق عليها (الاشارة)، فهي تنقسم الى حالات ثلاث، هي: الاشارة الاستظهارية والتأويلية والاستبطانية او الرمزية. وعلى هذه المرحلة تتأسس مرحلة اخرى نصك لها مصطلح (الايضاح)، وكان يمكن ان نكتفي بتسميتها (التفسير) لولا ان لهذا الاصطلاح معنى شائع الاستخدام في العلوم القرآنية، وهو يختلف عما نريد التنظير اليه. ولتبيان ما عليه المرحلة الاخيرة ومقارنتها بالاشارة؛ علينا اتباع ما سيأتينا من خطوات خلال الحلقة القادمة..

1 اعتاد علماء الأصول أن يميزوا بين النص والظاهر، فقد اعتبر الروياني في (البحر): إن الفرق بين النص والظاهر وجهان: أحدهما أن النص ما كان لفظه دليله، والظاهر ما سبق مراده إلى فهم سامعه. والثاني أن النص ما لم يتوجه إليه احتمال، والظاهر ما توجه إليه احتمال. وقال أبو نصر بن القشيري: اختلف الناس في النص، فقيل: ما لا يتطرق إليه تأويل، كما قيل: ما استوى ظاهره وباطنه، ونوقض بالفحوى، فإنها تقع نصاً وإن لم يكن معناه مصرحاً به لفظاً، وأجيب بأنه لا استقلال له، بل كل ما أفاد معنى على قطع مع انحسام التأويل فهو نص. كما قال القاضي أبو حامد المروزي: إن النص هو ما عري لفظه عن الشركة، وخلص معناه من الشبهة، وقيل إنه الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً. لكن الشافعي قد يسمي الظاهر نصاً في مجاري كلامه، وهو صحيح في وضع اللغة، لأن النص من الظهور، لكن من حيث الاصطلاح فبينهما اختلاف في المعنى (الزركشي: البحر المحيط، شبكة المشكاة الالكترونية، فقرة 292ـ293). لكن محمد بن علي بن الطيب البصري ذكر بأن الشافعي قد حدد النص بأنه خطاب يُعلم ما أُريد به من الحكم؛ سواء كان مستقلاً بنفسه أو عُلم المراد به بغيره، وكان يسمي المجمل نصاً (محمد بن علي بن الطيب البصري: المعتمد في أصول الفقه، باب في ذكر ألفاظ تستعمل في الكلام في المجمل والبيان (لم تذكر ارقام صفحاته)، موقع الكتاب الاسلامي الالكتروني http://www.islamicbook.ws/).وعموماً فإن أغلب علماء الأصول يعولون على أن اللفظ اذا اتى بمعنى لا يحتمل معه الخلاف فانه يعبر عنه بالنص، واذا اتى بمعنى يحتمل معه الخلاف فانه يطلق عليه الظاهر. لكنّا لا نفرق بين هذين النوعين من حيث كونهما يعودان الى الظاهر، وذلك لاعتبارات معرفية سنذكرها فيما بعد.
2فاطر\28.
3اذكرانهكنتضيفاًفيبيتاحدالاساتذةالجامعيينالمغاربةفيالدارالبيضاء،فجرىالحديثحولمشروعيالفكري،وفياثناءالحوارقالليهذاالاستاذ: انياتقاطعمعكفيماطرحتهمنافكار. لكنياستغربتمنمقالههذالظنيبأنهكانموافقاًليفيجميعاواغلبماطرحته،فرددتعليهبالقول: اتصوربأننامتفقانولسنامتقاطعين. وعندهاأشاربعضالحضورالىانهذاهومايقصدهالاستاذ. فعلمتبانلفظة(التقاطع) تدلعندهمعلىالاتفاقلاالتعارض. وفعلاًلفتانتباهيبعدذلكعندمااقرألبعضالمفكرينالمغاربةبأنهميستخدمونلفظالتقاطعكدلالةعلىالاتفاق،ولولاتلك الجلسةلكنتاظنبانالنص المغربي متناقض عند مصادفة ذلك اللفظ،حيثيقولخلافمايريداثباته.
4يوسف/ 82.
5الانبياء/11.
6إبنتيمية: الايمان،دارالكتبالعلمية،بيروت،الطبعةالأولى،1403هــ1983م،ص101ـ102.
7انظرحولذلك: إبنتيمية: الايمان،ص80. ورسالةفيالحقيقةوالمجاز،شبكةالمشكاةالإلكترونية(لمتذكرارقامصفحاتهولافقراته). ومحمدبنالموصلي: مختصرالصواعقالمرسلةلإبنالقيمالجوزية،تصحيحزكرياعلييوسف،مطبعةالإمام13،مصر،ص242ـ243. كذلك: النظام المعياري وفهم الاسلام.
8سبأ/18.
9الطلاق/8.
10الكهف/59.
11انظر: الراغبالاصفهاني: مفرداتألفاظالقرآن،مادة: قرى.
12الكهف\ 77.
13المائدة\44ـ47.
14انظر مثلاً: ابو الأعلى المودودي: الخلافة والملك، تعريب احمد ادريس، دار القلم، الكويت، الطبعة الاولى، 1398هـ ـ 1978م، ص11ـ16. والمصطلحات الأربعة في القرآن، عن منبر التوحيد والجهاد الالكتروني www.tawhed.com، فقرة ملاك الامر في باب الالوهية. وسيد قطب: معالم في الطريق، دار الشروق، بيروت، الطبعة السادسة، 1399هـ ـ 1979م، خاصة ص91ـ92. وخصائصالتصورالاسلاميومقوماته(القسمالاول)،الاتحادالاسلاميالعالميللمنظماتالطلابية، 1398هـ ـ 1978م،ص144 ومابعدها.
15الانبياء/47.
16الحديد/25.
17 اوردنا تفصيل هذه النظرية غير المعروفة في الاوساط الحديثة ضمن: الفلسفة والعرفان والإشكاليات الدينية، مؤسسة الانتشار العربي، 2008م، بيروت، الفصل الثامن.
18 للتفصيل انظر : العقل والبيان والاشكاليات الدينية.
19 عبد القاهر الجرجاني: دلائل الاعجاز، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، ص258.
20طه/5.
21نوح/28.
22الاسراء/70.
23طه\38ـ39.
24للتفصيلانظر: النظام الوجودي وفهم الاسلام. كذلك:الفصلالاخيرمن: الفلسفةوالعرفانوالاشكالياتالدينية.
25الانبياء/30.
26حيدرالاملي: جامعالاسرارومنبعالانوار،معتصحيحومقدمةكلمنهنريكوربانوعثماناسماعيليحيى،طبعشركتانتشاراتعلميوفرهنكي،ايران،طبعةثانية،1368هـ،ص59.
27انظربهذاالصددكتابنا: دوراللاشعورفيالحياة،مطبعةنمونة،قم،1985م.
comments powered by Disqus