-
ع
+

آليات قراءة النص الديني (2): آليات الايضاح

يحيى محمد

قد نتساءل ونقول: ما هي شروط الايضاح؟ او متى يكون النص موضحاً او مفسراً؟ فمثلاً هل نحصر الايضاح او التفسير بحدود ظاهر النص؟ أم أنه يختلف عن الظاهر؟ وماذا لو حملنا النص على التأويل او الباطن والرمز؛ فهل ذلك من الايضاح والتفسير ام لا؟

للإجابة على هذه الاسئلة وغيرها علينا متابعة النقاط التالية:

أولاً:

لقد سبق ان عرفنا ان ظاهر النص يتضمن ظهورين، احدهما الظهور اللفظي والاخر الظهور المجالي، وقلنا ان هناك اربعة انماط للظهور اللفظي، احدها يعبر عن روح المعنى العام للحقيقة اللفظية، وثانيها يعبر عن الحقيقة الخاصة، والثالث هو الظهور المجازي، والرابع عبارة عن الظهور الرمزي. ولا شك ان النمط الاول لا يعطي تفسيراً بالمعنى الذي يوضح الكيفية التي عليها اللفظ وسط علاقاته الخاصة ضمن السياق. فالظهور اللفظي عندما يعبر عن روح المعنى العام فانه يخلو من التوضيح، أو على الاقل يفتقر الى تحديد المعنى المشخص الذي بدونه لا تتوضح الكيفية التي يريد النص تبيانها عبر ما سميناه الايضاح او التفسير، رغم كون المعنى في هذه المرحلة يعبر عن الحقيقة المفهومة تبعاً للسياق، وهي الحقيقة التي تدفع عنها الحمل على المجاز والرمز.

فمثلاً حينما نقول ان لله يداً ونزولاً ومجيئاً وغير ذلك من الصفات والاحوال الظاهرة في النص لكن من غير تحديد لكيفية هذه الصفات المثبتة؛ فإن قولنا هذا يشير الى ظاهر النص من دون ايضاح، ومثل ذلك ما ورد عن الامام مالك حول استواء العرش، فهو قد حمل ألفاظ النص القرآني على حقيقتها الظاهرة ولكن من غير ايضاح للكيفية او التفسير، اذ قال: «الاستواء معلوم والكيف مجهول والايمان به واجب والسؤال عنه بدعة»1. ومثله ما قاله احمد ابن حنبل: «استوى كما اخبر لا كما يخطر للبشر».

كذلك عندما يكون الظهور اللفظي معبراً عن احد الانماط الاخرى، وهو حمل اللفظ على الحقيقة بمعناها الخاص، او حمله على المجاز الظاهر وكذا الرمز الظاهر، فإن ذلك لا يفضي بالضرورة الى ايضاح الكيفية التفسيرية للنص، لكنه بلا شك يُعدّ خطوة اساسية في هذا الاتجاه، وقد تندك فيه شروط الايضاح التي تستعلم منها الكيفية الاستبيانية للنص.

فمثلاً لو اننا قمنا باثبات الصفات الالهية المذكورة وحملناها على معانيها الحقيقية الخاصة، كأن نعد لله اليد والعين والوجه وغيرها من الصفات ونحملها على معنى ما لدينا من الاعضاء والجوارح، فاننا قد خطونا بذلك خطوة الايضاح او التفسير للنصوص المتعلقة بهذه الصفات، وكذا لو قلنا ان معانيها مجردة وحددنا هذه المعاني كالذي لجأت اليه نظرية المشاكلة للفلاسفة المتأخرين او المعاينة للعرفاء او غيرها، فاننا نكون قد مارسنا آلية الايضاح او تفسير الكيفية التي عليها معاني ألفاظ النص.

فالايضاح يختص بتفسير هذه الكيفية من العلاقات اللفظية التي يتضمنها النص، فإن لم تكن الكيفية متخيلة لدى الارادة التصورية للذهن فإن الأمر يخرج عن حد الايضاح وان دل على حمل اللفظ الظاهر على حقيقته او على غيره.

على ان تبيان الكيفية الايضاحية او التفسيرية يستند الى حضور نوعين من العلاقة المتخيلة للارتباط اللفظي، نطلق على احدهما العلاقة المفهومية، وعلى الاخر العلاقة المصداقية. فالعلاقة المفهومية هي تلك التي تعبر عن مفاهيم الألفاظ ومعانيها بالشكل الذي تكون فيه واضحة المعالم وبينة المقاصد، بغض النظر عن كيفيتها على الصعيد الخارجي، وقد تندك هذه العلاقة في الدلالات اللفظية الظاهرة، كما قد تتمايز عنها باشكال مختلفة؛ إما لكونها تعبر عن حالات من المعاني المجازية او الرمزية، او لكونها لا تعبر عن ذلك وانما تعطي مزيداً من المعنى المضاف الذي يثيره ظاهر النص، كما سيمر علينا في بعض الامثلة البلاغية. أما العلاقة المصداقية فهي تعبر عن طبيعة ما تدل عليه المعاني اللفظية بحسب الوجود الخارجي.

وعليه لا غنى للايضاح عن تبيان هاتين العلاقتين. فالحاجة الايضاحية ما هي الا حاجة لشرح طبيعة هاتين العلاقتين معاً. بل ان الحاجة الجوهرية في العملية الايضاحية او التفسيرية تتمثل في شرح وتبيان العلاقة المصداقية، فالغرض من قراءة النص (الديني) هو الكشف عن الموضوع الخارجي، وما ضرورة العلاقة المفهومية الا لأنها شرط لا غنى عنه في تلك العملية من الكشف، حيث لا تتوضح العلاقة المصداقية ما لم تنكشف قبلها العلاقة الاخرى. فهذه هي طبيعة الملازمة بين العلاقتين للعملية الايضاحية، وهذه هي حاجتها.

ثانياً:

عملياً نصادف اشكالاً مختلفة للحاجة الايضاحية الانفة الذكر. فتارة تكون الحاجة لكليهما معاً، وتارة اخرى تكون الحاجة لايضاح العلاقة المفهومية بما تعبر عن منطوق النص، لبيان العلاقة الاخرى، وثالثة العكس، حيث تكون الحاجة لايضاح العلاقة المصداقية دون المفهومية لبيانيتها، ورابعة قد تنتفي هذه الحاجة نظراً لبيان النص في كشفه عن عناصره تبعاً لكلا العلاقتين، حيث يتحدان ويندمجان في المتخيل الذهني لظاهر النص من غير تمايز، للوضوح الناتج عما تمدنا به بعض القبليات المعرفية وعلى رأسها الضرورات الحسية والوجدانية. لكن في اغلب الاحيان نجد انفسنا في حاجة لايضاح الكيفية وشرح ما يراد تبيانه من النص؛ سواء على صعيد المفهوم ام المصداق ام كليهما. ويمكن تبيان هذه الانماط الاربعة كما يلي:

الحالة الاولى:

في كثير من الاحيان يتبادر في النفس كيفية العلاقة المفهومية والمصداقية وفق المتخيل الذهني من غير جهد مضاف الى الحاصل الوارد في منطوق النص بعلاقاته اللفظية، نظراً للمخزون الذهني من القبليات المعرفية التي تعمل على تشكيل الصورة المتخيلة لطبيعة العلاقتين الانفتي الذكر، خاصة فيما يتعلق بالقبليات الحسية والوجدانية باعتبارها واضحة غير مجهولة المعالم. وفيها يبدو لنا الاتحاد بين العلاقتين المفهومية والمصداقية، او الاشارة والايضاح الظاهرين، كالذي يتبادر لدينا من متخيل العلاقتين عندما نقرأ قوله تعالى: ((فجاءته احداهما تمشي على استحياء))2، او قوله تعالى: ((واذ قال موسى لقومه ان الله يأمركم ان تذبحوا بقرة))3، او قوله تعالى: ((يا ايها الذين امنوا اصبروا وصابروا))4.. ففي مثل هذه الايات تبدو العلاقتان المفهومية والمصداقية متحدتين عند المتخيل الذهني، خلافاً لما سنرى افتراقهما احياناً، حيث قد تتبادر الى الذهن احداهما دون الاخرى، او ان احداهما تفترق عن الثانية ولا تتحد معها عند التبادر، الأمر الذي يستدعي الكشف عما تحتاجه اي منهما من الشرح والايضاح والتفسير.

الحالة الثانية:

في حالات معينة قد يكون ظاهر الدلالات اللفظية للنص منكشفاً لدى ذهن القارئ او السامع، لكن هذا الظاهر لا يفي بحاجة العلاقة المفهومية لدى المتخيل الذهني، بحيث يحصل شعور بان الظاهر من تلك الدلالات يظل ناقصاً ما لم يدرك الغرض الذي تضيفه طبقاً لذلك المتخيل. فيصبح من المعلوم لدى الارادة التصورية للذهن ان ما ترمي اليه الدلالة النصية هو شيء اخر غير الظاهر المحصل، استناداً الى كل من الكناية والاستعارة والتمثيل. فمثلاً جاء في قوله تعالى: ((قال ربِ اني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً))5، فالدلالة الظاهرة للمقطع الأخير من النص تعبر عن كثرة ما اصاب الرأس من الشيب، لكن غرض النص ليس الظاهر المذكور، بل التعبير عن حالة تقدّم السن او الشيخوخة، اذ ان من يصل الى هذه المرحلة من العمر يبْيضّ رأسه شيباً. ويمثل البلاغيون على ذلك بأمثال؛ كقولهم عن الفتاة بأنها (نؤوم الضحى)، فالظاهر منكشف وهو وصف الفتاة بانها تنام في وقت الضحى، لكن ما يريد المتكلم ان يوصله للسامع هو شيء اخر، او ان السامع يفهم منه شيئاً اخر غير هذا الظاهر، وهو كون الفتاة مترفة مخدومة. وكذا قولهم: (هو كثير رماد القدر)، والمعنى انه مضياف او كثير الضيافة، حيث لكثرة الضيافة فانه يقوم بتجهيز الطعام باحراق الحطب ونصب القدور فيكثر الرماد بذلك6.

ومعلوم ان الايضاح او التفسير - هنا - هو ليس ظاهر الألفاظ، فلو توقف الأمر على هذا الظاهر من غير ان يكون هناك متخيل ذهني للعلاقة بين مضامين النص على صعيد المفهوم، او ما يريد المتكلم توصيله من معنى وراء ذلك الظاهر، فسوف لا يعد ايضاحاً وتفسيراً بل مجرد ظاهر واشارة، بحيث لو قلت هذا هو الظاهر وهذه هي حقيقة اللفظ لما اوفى المعنى شيئاً حول العلاقة المفهومية وتوضيحها كما يريد ان يبلغها المتكلم. ولا شك ان ما يساعد على ايضاح هذه العلاقة هو القبليات المعرفية، خاصة تلك التي تتمثل بقرائن الواقع الحسي. فكأننا من خلال العلاقة المصداقية أمكننا ان نكشف عن العلاقة المفهومية. إذاً فحاجتنا العملية للايضاح هي الكشف عن هذه الأخيرة، فبعد هذا التشخيص تصبح العلاقة الاولى واضحة بفضل الضرورة الحسية، خلافاً لما سنراه في الحالة القادمة.

الحالة الثالثة:

في بعض الاحيان قد يكون النص واضحاً من حيث العلاقة المفهومية تبعاً للظهور اللفظي، فلا تكون هناك حاجة الى الكشف عن تبيان طبيعة العلاقة بين الألفاظ بما هي هي في مرحلتها المفهومية لوضوحها، وان كان المتخيل الذهني للعلاقة المصداقية للنص يحتاج الى الكشف والايضاح. واقرب مثال على ذلك ما يتعلق بقوله تعالى: (( وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى))7، فظاهر النص دال على ان الرمية التي كانت للنبي هي في الوقت ذاته منفية عنه ومنسوبة لله، وهذا هو توضيح ما عليه العلاقة بين الألفاظ من حيث المفهوم الذي ينطق به النص، لكنه لا يكفي بشأن ايضاح الكيفية الخارجية او المصداق، اذ ما معنى ان تكون الرمية المنسوبة الى النبي هي في حقيقتها رمية لله لا للنبي؟ فالمعنى بحسب المصداق ليس واضحاً او مفسراً، الأمر الذي يستدعي ان تكون هناك اضافة ايضاحية او تفسيرية تشرح فيه الكيفية التي عليها طبيعة المصداق الخارجي، وبدون ذلك لا يكون النص نصاً مفسراً، انما هو واقع تحت طي الاشارة والفهم الظاهر فحسب. ونحن هنا في ايضاحنا وتفسيرنا لهذه الاشارة والفهم الظاهر لا غنى لنا من الاستناد الى القبليات المعرفية، مثل تلك التابعة للرؤى المنظومية، كالتي تتكئ على نظرية وحدة الوجود. ففي تفسير ابن عربي لهذا النص اعتبر الاية دالة علة كون الصورة المحمدية هي ذاتها صورة الهية في احدى تعينات الذات القدسية8.

ومن الامثلة الاخرى على هذه الحالة قوله تعالى: ((وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب))9، حيث ان العلاقة المفهومية واضحة تبعاً للظهور اللفظي، لكن العلاقة المصداقية تحتاج الى الايضاح، اذ كيف يمكن تصور حركة الجبال التي شُبهت بمر السحاب؟ فهل نتصور ذلك بحسب القبلية العلمية التي تؤكد على حركة كل شيء طبيعي؟ وهل ان الحركة المقصودة داخلية بحسب الجزيئات والذرات والجسيمات البسيطة؟ او ان حركتها خارجية بحركة الارض في الفضاء؟

يظل هناك عدد كبير من النصوص القرآنية يمكن اعتبارها واضحة المعنى من الناحية المفهومية، لكنها غير واضحة من الناحية المصداقية.

الحالة الرابعة:

في حالات معينة قد لا يكون النص واضحاً من الناحيتين المفهومية والمصداقية، مما يجعل الحاجة الى الايضاح والتفسير رهينة تبيان هاتين العلاقتين معاً، ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى: ((الله نور السماوات والارض))10، فما معنى وصف الله بالنور وما هي كيفيته المصداقية؟ ومثل ذلك ما وصف الله نفسه بكثير من الصفات؛ كالمكر والغضب والحب والرضا والمجيء والاستواء... الخ. فبعض العلماء لم يفسر العلاقة الأخيرة للنص واكتفى بايضاح العلاقة المفهومية؛ بأخذ هذه الصفات على حقيقتها الظاهرة ولكن من غير تكييف، اي من غير ايضاح للعلاقة المصداقية، كالذي عليه ابن تيمية11. وبعض اخر زاد على ذلك بتحقيق ما يتطلبه الايضاح والتفسير فاعتبرها مأخوذة على حقيقتها الظاهرة وان لها الكيفية الخاصة، كالكيفية الجسمية مثل الذي ذهبت اليه الحشوية، او الكيفية التجريدية (التشاكلية) كالذي ذهب اليه صدر المتألهين، او الكيفية (العينية) كالذي ذهب اليه ابن عربي12.

***

هكذا يتحقق الايضاح والتفسير الظاهر بحسب ما له من علاقة بمستويي الظهور اللفظي. وبالتالي فهناك مستويات ثلاثة للظهور بعضها يقوم على البعض الاخر، كالتالي:

الاول: مستوى الظهور اللفظي بمعناه الدال على الحقيقة العامة المشتركة. وهو ليس من الايضاح بشيء وإن كان يعبر عن حمل اللفظ على الحقيقة.

الثاني: مستوى الظهور اللفظي بمعناه الدال على المعنى الخاص، وهو مستوى يتجلى بنواح ثلاث: احدها حمل اللفظ على الحقيقة المشخصة كتعبير عن احد مصاديق الحقيقة العامة المشتركة. وثانيها حمل اللفظ على الظهور المجازي. واخيراً حمل اللفظ على الظهور الرمزي. وهذا المستوى هو الاخر لا يعبر عن المرحلة الايضاحية.

الثالث: مستوى ايضاح النص او تفسيره، ويمتاز بانه يعتمد على المستوى الثاني، مثلما ان هذا الاخير يعتمد على الاول. وخاصية الايضاح انه يعمل على تبيان العلاقتين المفهومية والمصداقية معاً. ولما كان قائماً على المستوى الثاني وموضحاً له تبعاً لهاتين العلاقتين فانه يعبر بذلك عن فهم الفهم ومعنى المعنى.

ثالثاً:

عرفنا ان الاخذ بالظاهر لا يعني بالضرورة ايضاحاً وتفسيراً، كما ان الايضاح والتفسير لا يقتضي الاخذ بالظاهر، فهناك ظاهر بلا ايضاح او تفسير، وايضاح او تفسير بلا ظاهر، مما يعني ان العلاقة بينهما ليست لزومية. بل ان هذا الحكم يجري على ما تبقى من أنواع الاشارة، حيث لا توجد علاقة لزومية تربط بين الايضاح والتأويل، او بينه وبين الباطن او الرمز. اذ يمكن ان تتحقق لدينا الاشارة التأويلية او الباطنية وإن لم يثبت الايضاح او التفسير.

والايضاح بهذا المعنى له انماط مختلفة، فعندما يتأسس على الظاهر نطلق عليه (الايضاح الاستظهاري)، لكنه عندما لا يرتبط باي علاقة مع الظاهر فانه لا يخرج عن نمطين من العلاقة، فهو إما ان يكون متأسساً على التأويل فنطلق عليه (الايضاح التأويلي)، او يكون متأسساً على الرمز فنسميه (الايضاح الاستبطاني او الرمزي).

وعلى العموم لدينا مجموعتان احداهما تترتب على الاخرى من غير لزوم، حيث نطلق على الاولى (الاشارة)، وعلى ما يترتب عليها (الايضاح). وان الفارق بينهما هو ان الاشارة تبحث عن المعنى، لكن الايضاح يبحث عن شرح المعنى، او انه عبارة عن معنى المعنى.

ومن حيث الاشارة لدينا كل من استظهار النص وتأويله واستبطانه. فاستظهار النص هو ذلك الذي يحافظ على الظهور المجالي وتكون فيه الدلالات اللفظية معلومة بالتبادر. وتأويل النص هو ذلك الذي يبتعد عن هذه الدلالات الظاهرة، وإن التزم بالظهور المجالي. أما استبطان النص فانه على خلاف كل من الاستظهار والتأويل حيث يتصف بعدم الالتزام بكل من الظهورين اللفظي والمجالي.

ومن حيث الايضاح لدينا كل من الايضاح الاستظهاري والتأويلي والاستبطاني. وخاصية الاول هو انه يعتمد على الاشارة الظاهرية ليكشف عن الكيفية التي عليها العلاقتان المفهومية والمصداقية، كالذي مر علينا بيانه. كما ان خاصية الايضاح التأويلي هو انه يعتمد على الاشارة التأويلية بالكشف عن طبيعة العلاقتين المفهومية والمصداقية للمعنى. فقد يكون التأويل محض اشارة من غير ايضاح او تفسير، وذلك عندما يكون هناك نفي للظهور اللفظي وحمله على التأويل من غير ان تتوضح فيه كل من العلاقتين المفهومية والمصداقية.

فمثلاً ان إبعاد المعنى الظاهر للألفاظ الخاصة بالصفات الالهية وتأويلها ولو من غير تعيين، او بتعيين المعنى ولكن من غير تبيان لكل من العلاقتين المفهومية والمصداقية، لا يعد من الايضاح او التفسير المكتمل للنص. فنحن هنا نواجه نفس الحال الذي سبق مواجهته مع حالات الحاجة الايضاحية عند الاستظهار. ومن ذلك ان العلماء حينما حملوا اية (استواء الرحمن على العرش) على خلاف الظاهر، وهو قولهم بان ذلك يعني استيلاء الرحمن وغلبته على العرش مثلاً، لم يكشفوا عن كيفية العلاقتين المفهومية والمصداقية لهذا المعنى. فمن حيث العلاقة المفهومية هو ان لله الغلبة والاستيلاء على كل شيء فما جدوى هذا التخصيص بالعرش؟ وكذا لو قيل ان معنى الاستواء جاء ليدل على الملكية، وهو ان العرب يقولون استوى فلان على البلد بمعنى استملكه، فذلك لا يكفي ايضاً للتعبير عن الدلالة المفهومية من حيث تصورنا القبلي عن مالك الوجود الذي يملك كل شيء اولاً واخراً. أما من حيث العلاقة المصداقية فيبقى السؤال وارداً، وهو: ما معنى هذه العملية الاستيلائية او التملكية للعرش؟ وبذلك نعد المفسرين الذين ذهبوا الى هذا المعنى انما حملوا النص على التأويل ولكن من غير ايضاح او تفسير مكتمل13.

أما خاصية الايضاح الاستبطاني فهو انه يعتمد على الاشارة الرمزية ليوضح من خلالها طبيعة العلاقتين المفهومية والمصداقية للمرموز اليه. فلو توقف الحال على الاشارة الرمزية من دون ايضاح الكيفية التي تخص هاتين العلاقتين؛ فإن ذلك لا يعد من الايضاح، رغم تأديتها للفعل الاستبطاني، باستبعاد كل من الظهورين اللفظي والمجالي.

فمثلاً ليس من الايضاح بشيء اذا توقف الحال على اعتبار شجرة ادم وقصته يرمزان الى امور ليس لنا العلم بها سوى انها خلاف ظاهر ألفاظ القصة ومجالها. وكذا ليس من الايضاح بشيء لو حددنا معنى الشجرة كرمز يشير الى قضية اخرى اجنبية لكن من غير توضيح للعلاقة المفهومية لهذا المعنى بسائر المعاني الرمزية المستخلصة من القصة، ومثل ذلك فيما لو تم الكشف عن هذه المعاني ولكن من دون ايضاح الكيفية المصداقية لها. ففي كل هذه الاحوال لا يمكن ان نعد ذلك من الايضاح او التفسير المكتمل. اذ يشترط في الايضاح الإستبطاني للنص الكشف عن العلاقة المفهومية للمعاني المستخلصة من خلال الرموز اللفظية مع تبيان ما عليه حقيقتها المصداقية.

فمثلاً ان لابن عربي تصوراً رمزياً لقصة يوسف، يعتبر فيها ان المقصود بيوسف من حيث الباطن هو النفس المؤمنة، وأبيه يعقوب هو العقل، واخوته هم النفس الامارة واللوامة، وان امرأة العزيز هي النفس الكلية وهكذا.. فهو تبعاً لهذه الاشارات المفهومية يذكر بأن الله تعالى لما اراد من النفس المؤمنة ان تسافر اليه اشتراها من اخوتها الامارة واللوامة بثمن بخس، وحال بينها وبين ابيها العقل، فبقي هذا العقل حزيناً لا تفتر له دمعة، وذلك بعد ان كان يتنزه في الحضرة الالهية بوجود هذه النفس، فلما حصلت الحيلولة بينهما اصابته الظلمة في بصره من الحزن، وهكذا14.. فهذه التصورات الرمزية تدل على ابراز جانب من العلاقة المفهومية، أما العلاقة المصداقية فهي عبارة عن مصاديق الرؤية العرفانية التي تشرح طبيعة العلاقة التراتبية بين العقول والنفوس وتسخير بعضها للبعض الاخر.

رابعاً:

للتمثيل على المقارنة بين الآليات الست المختلفة للاشارة والايضاح؛ نتبع ما يلي:

لو أخذنا مثال اليد الالهية كما وردت في النص القرآني، وقلنا بأن لله يداً لكنها غير معلومة الكيفية؛ فكلامنا هذا يعبر عن حقيقة اللفظ وظاهر النص وان لم نعين تفسيره بالتحديد إن كانت هذه اليد جارحة كأيدينا مثلاً او غير ذلك. فهو بالتالي مجرد اشارة ظاهرية فحسب.

ولو قلنا بأن هذه اليد معلومة وموضحة؛ كإن ندعي أنها كأيدينا، او هي عين هذه الأيدي، او انها أيدٍ بالمعنى المجرد، فإن ذلك يدخل في الايضاح والتفسير ولا يقتصر على مجرد الأخذ بالظاهر، وهو ما نطلق عليه الايضاح الاستظهاري.

ولو قلنا بأن يد الله ليست مرادة على ظاهر اللفظ، لكن لا نعلم تفسيرها ضمن سياق النص، او أننا عيّنا معناها ولكن مفهوم النص الذي يتضمنها غير مكتمل المعنى والتوضيح، او لاعتبارات تتعلق بعدم تبيان ما عليه النص من الناحية المصداقية.. فكل ذلك يكون تأويلاً من حيث الاشارة لا الايضاح والتفسير.

ولو قلنا بأننا نعلم المراد كمفهوم ونتخيل المصداق عبر المعنى المأول، كإن يكون المراد هو القدرة او النعمة او غير ذلك تبعاً لما عليه مجال النص، فإن الأمر يصبح ايضاحاً بحسب التأويل.

ولو قلنا بأن يد الله ليست مرادة بحسب الظاهر وانها ترمز الى امر اخر غير مرتبط بالمجال الذي وردت فيه الكلمة، وإن كنا لا نعلم تحديد معنى هذه الكلمة ومجالها، او كنا نعلم ذلك لكن من دون ايضاح لكلا العلاقتين المفهومية والمصداقية، فالامر يكون مجرد اشارة رمزية من غير ايضاح وتفسير.

ولو قلنا بأننا نعلم تحديد المعنى مفهوماً ومصداقاً، كإن نفسر اليد بمعنى العقل الاول وما شاكل هذا المعنى ونبين ما يرتبط بذلك من العلاقات، فالامر يصبح ايضاحاً بحسب الباطن.

خامساً:

تبعاً للتقسيم الانف الذكر بين المجموعتين يتجلى أن لا تلازم بينهما من حيث الرد والقبول، فقد يكون المعنى المحدد بحسب الاشارة متفقاً على قبوله بين المفسرين، أما الايضاح فهو موضع خلاف بينهم، اي ليس كل ما يقبل من حيث الاشارة فإن ايضاحه يقبل هو الاخر، وكل ذلك يعود الى اختلاف ما عليه القبليات، خصوصاً تلك التي تعود الى النظم المعرفية كما سنعرف لاحقاً.

فمثلاً قد يتفق العرفاء مع غيرهم من العلماء في فهمهم للاشارة الاستظهارية، لكنهم مع هذا يفسرون الاشارة تفسيرهم الوجودي المعهود بما يختلفون فيه عن الغير، بل وبما يبتعدون فيه عن اجواء النص وسياقه، وبما قد لا يستسيغه العقل والوجدان، رغم ان فهمهم قائم على الاشارة الظاهرية. وفي هذه الحالة نطلق على هذه العملية (الاستظهار الجدلي).

وفي الجملة ان ما يعنيه الاستظهار الجدلي هو ان تكون الاشارة ظاهرية، في حين يكون ايضاحها وتفسيرها قائماً على المباطنة والتأويل البعيدين؛ بفعل ما تتحكم به قبليات النظم المعرفية. وسيأتينا عدد من الشواهد يبرز فيها هذا النوع من الاستظهار الذي تفترق فيه الاشارة عن الايضاح افتراقاً بيناً.

سادساً:

قد تتخذ القراءة بأشكالها الثلاثة، سواء على نحو الاشارة او الايضاح، نمطين مختلفين، فتارة تتخذ طابعاً مقطعياً مجزءاً، واخرى تتخذ الطابع الكلي للقضية او الموضوع المقروء. ومثلما قد تكون القراءة الكلية استظهارية، فانها قد تكون تأويلية او استبطانية. وقديماً استخدم الفلاسفة هذا الاسلوب من التأويل الكلي، فمثلاً اعتبروا حياة الانسان في الآخرة من شقاء في النار او نعيم في الجنة كلها نفسية كالتي تجري في المنامات والاحلام، اي خلاف الصور الجسمية التي تبديها ظواهر النصوص القرآنية، لذا اعتبروا الايات الواردة في المقام هي للتشبيه والاقناع فحسب، كالذي عليه اخوان الصفا والفارابي وابن سينا ونصير الدين الطوسي وغيرهم من الفلاسفة المتقدمين. وحديثاً استخدم هذا الاسلوب من التأويل الكلي الاستاذ محمد احمد خلف الله حول القصص القرآني كما في كتابه (الفن القصصي في القرآن الكريم)، فنفى ان يكون الوارد من القصص القرآني يعبر عن حقائق تاريخية، وانما جاء لاعتبارات ادبية فنية ونفسية. وبالتالي فهي قراءة تتناول الجانب الكلي للموضوع المقروء.

وقد تكون القراءة المقطعية من حيث الاشارة استظهارية، ومن ثم قد يتكفل الدليل الاستقرائي لاثبات الجانب الاستظهاري للمقاطع او الايات، لكن قد يضطر الفهم على مستوى الايضاح الى افتراض صور اخرى تأويلية او رمزية تخالف ما عليه الاشارة ضمن ما سميناه (الاستظهار الجدلي). فالتمييز بينهما واضح، اذ ننكر تأويل المقاطع الجزئية اذا ما كانت دلالاتها العامة بالاستقراء واضحة، رغم ان من الممكن تأويل الموضوع الكلي عندما يواجه معارضة من اصول اخرى مخالفة، كالذي سنتعرف عليه بالتفصيل عند تناولنا لموضوع عذاب الاخرة فيما بعد.

سابعاً:

ان مصاديق كل من آليات الاشارة والايضاح الثلاث تتفاوت فيما بينها قوة وضعفاً تبعاً لاعتبارات كل من الظهور اللفظي والحالة التي عليها سايكولوجية القارئ واعتباراته القبلية. فقد تتفاوت حالات الاستظهار من نص الى اخر لدى القارئ، كما قد يتفاوت استظهار النص الواحد من قارئ الى اخر، بحيث يحصل ما هو اكثر او اقل استظهاراً مقارنة بالاخر.

وينطبق الحال نفسه حول الآليتين الأخريين. فقد يحصل من التأويل وكذا الاستبطان ما هو اكثر تأويلاً واستبطاناً بالنسبة الى الاخر، سواء كان الآخر عبارة عن النظير من النصوص، او النظير من القراء. بل قد تحصل حدود وسطى بين الآليات الثلاث، ومن ذلك ما اطلقنا عليه المجاز الظاهر، فهو لا يخلو من التأويل القريب، لكنه يعبر في الوقت ذاته عن حالة من حالات الظاهر بدلالة ما يحصل من التبادر، بفعل القرائن المنفصلة المركوزة في الذهن. وبالتالي فنحن - هنا - امام حالة مزدوجة تجمع بين التأويل والاستظهار، اذ يمكن عدها من الاستظهار بفعل القرائن المركوزة في الذهن، كما يمكن عدها من التأويل بفعل ما فيها من المجاز اللفظي.

فمثلاً على ذلك قوله تعالى: ((إنّك ميّت وإنّهم ميّتون))15، اذ لو عزلنا هذا النص عن اي قرينة منفصلة، كالقرينة الخارجية الحسية، لكُنا قد استظهرنا من النص الدلالة على موت النبي والاخرين موتاً حقيقياً وقت نزول الخطاب. فالظاهر دال على انهم ميتون حقيقة، لكن بفعل القرينة والضرورة الحسية يتبين ان الأمر ليس كذلك، حيث يتبادر المعنى طبقاً لموجهات القرائن الخارجية، او القبليات المعرفية، ومنه نعلم ان ظاهر النص دال على معنى كون النبي والاخرون سيموتون لا محالة، لا انهم ميتون فعلاً. وهذا التوجيه او التأويل القريب هو ليس كالتأويل البعيد الذي يبتعد عن سياق النص وحقيقة ألفاظه ابتعاداً كثيراً.

وينطبق هذا الحال - ايضاً - على قوله تعالى: ((واسأل القرية))، حيث يفهم القارئ مباشرة وبحسب ما لديه من المخزون الذهني للقبليات الحسية ان المقصود بذلك هو اهل القرية. وكذا قوله تعالى: ((فوجدا فيها جداراً يريد ان ينقض فأقامه))، حيث يتبادر الى فهم القارئ، تبعاً للقرائن القبلية المتمثلة بالحس، ان المقصود من الارادة في النص هو الميل، وليس تلك الصفة الحيوية التي تُطلق على الانسان وغيره من الاحياء. وكذا الحال في قوله تعالى: ((وَمَنْكَانَفِيهَذِهِأَعْمَىفَهُوَفِيالْآَخِرَةِأَعْمَىوَأَضَلُّسَبِيلًا))16، فوفقاً للقبليات الوجدانية فضلاً عن دلالات سائر نصوص القرآن لا يتبادر الى الذهن كون المقصود في لفظة (أَعْمَى) بداية الآية هو فاقد البصر، بل هو أعمى القلب والبصيرة. كذلك قوله تعالى: ((وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ))17، فلو اعتمدنا على الظاهر الحرفي للنص لكان يعني ان اليهود يعترفون بأن عيسى رسول الله ومع ذلك قتلوه، فاذا كانوا يعترفون برسالته الحقة فلماذا قتلوه؟! وهو أمر يتناقض مع نصوص اخرى بأنهم كذبوه، وهو ما يبرر محاولة قتلهم له. لذلك جرى تأويل النص بان المعنى هو اننا قتلنا عيسى الذي يدعي انه رسول الله، فجاء خطابهم بنحو التهكم والاستهزاء، مثل قول المشركين: ((ياأيهاالذينزلعليهالذكرإنكلمجنون))، كالذي افاده ابن كثير في تفسيره18.

وعلى هذه الشاكلة هناك عدد كبير من النصوص تقترب فيها مجازية النص من فعل الظهور العائد الى الحقيقة.

لكن هناك ما هو اقل من ذلك ظهوراً وإن لم يبتعد كثيراً عنه. ومن ذلك ما جاء في تأويل قوله تعالى: ((يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي))19، اذ قيل فيه ان معناه هو اخراج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، وكذا العالم الفطن من الجاهل البليد، وهذا الجاهل من العالم.

ومثل ذلك بعض النماذج التي يركز عليها العرفاء ضمن مبدأ ما يسمى (الاعتبار)، وهو المنهج الداعي الى العبور من ظاهر النص الى باطنه لقرينة مناسبة دالة على هذا الامر او منبهة عليه، من حيث الانتقال من النظير الى النظير، او من الشيء الى شبيهه او الى ما يناسبه، كالقياس التمثيلي والقياس بالاولى، فهو لا يلغي الظاهر، كما انه لا يتوقف عنده. اذ يمثل الظاهر اشارة لما يناسبه. وسمي بالاعتبار تبعاً لقوله تعالى: ((فاعتبروا يا اولي الابصار))20، او قوله: ((ان في ذلك لعبرة لاولي الابصار))21. وقد يتخذ كقراءة – سواء اشارية او ايضاحية - للنص، كما قد يتخذ كقياس وجداني مسترسل ضمن ذكر النظير بالنظير. وفي الحالة الثانية لا نعتبره عائداً الى الاليات الستة من الاشارة والايضاح، بل قائم عليها. اما فيما يتعلق بالحالة الاولى فان لها مراتب ودرجات من القرب والبعد عن الظاهر.

فمثلاً سئل الشبلي (المتوفى سنة 334هـ) عن قوله تعالى: ((قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم))22، فقال: ‹‹ابصار الرؤوس عن محارم الله تعالى وابصار القلوب عما سوى الله تعالى››. كما جاء في تفسير ابن حيون الاسماعيلي لقوله تعالى: ((وثيابك فطهر))23، ان الظاهر من النص هو تطهير وتنظيف هذه الثياب مما يعلق بها من اوساخ وقاذورات، والباطن هو تطهير النفس من الذنوب التي كنى عنها بالثياب.24وجاء ان بعض العرفاء كان يقول ان المراد من قوله تعالى: ((يا ايها الذين امنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار))25؛ هو النفس، اي اننا امرنا بأن نقاتل النفس باعتبارها اقرب شيء الينا. وذكر ابن الصلاح الشهرزوري (المتوفي سنة 643هـ) في فتاويه: وجدت عن الامام ابي الحسن الواحدي ان ابا عبد الرحمن السلمي صنف كتاب (حقائق التفسير) وقال: ان اعتقد السلمي ان ذلك تفسير فقد كفر. ثم اردف ابن الصلاح قائلاً: الظن بمن يوثق به من الصوفية انه اذا قال شيئاً من امثال ذلك انه لم يذكره تفسيراً، ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة في القرآن العظيم، فانه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية، وانما ذلك منهم ذكر لنظير ما ورد به القرآن، فان النظير يذكر بالنظير، فمن ذلك مثال النفس في الاية المذكورة، فكأنه قال: أُمرنا بقتال النفس ومن يلينا من الكفار، ومع ذلك فياليتهم لم يتساهلوا في مثل ذلك، لما فيه من الابهام والالتباس26. وعلى شاكلة هذا النموذج ما ذكره الغزالي بالنسبة الى قوله تعالى في حق موسى: ((اخلع نعليك))27، حيث يكون المعنى هو بحسب الظاهر عبارة عن خلع النعلين الذين يشكلان ملبس القدمين للانسان، وبحسب الباطن عبارة عن طرح الكونين او العالمين.28

وقد سبق لهذه الطريقة الثيولوجي اغسطين (354م ـ 430م) في تفسيره الرمزي لسفر التكوين ضمن الفصل الثامن من كتابه الاعترافات، فمثلاً جاء في سفر التكوين ان الله عزل الظلمة عن النور: >وفصل الله بين النور والظلمة<، فرأى ان الظلمة ترمز الى الروح التي ما تزال بدون نور. كما وفسر ما جاء في سفر التكوين >لكم يكون طعاماً< بانها ترمز الى الحسنات التي تنعش وتنمي الروح29.

كما هناك ما هو بعيد عن الظهور اللفظي، مثل الكثير من معاني الفهم التي وضعها كل من المعتزلة والاشاعرة ازاء النصوص الدينية، كما يتبين موقفهم من النصوص القرآنية الخاصة بمسألة القضاء والقدر. اذ قامت المعتزلة ومن على شاكلتها بتأويل ظواهر الايات الدالة على التدخل الالهي في اضلال العباد والختم على قلوبهم30. وعلى الضد لجأت الاشاعرة الى تأويل ظواهر الايات الدالة على نسبة الاعمال الى العباد31.

واخيراً فهناك ما هو اكثر بعداً وايغالاً في التأويل، بحيث يصل الى درجة التحريف، كما يدل عليه الكثير من الممارسات التي قام بها الفلاسفة والعرفاء تبعاً لقبلياتهم الوجودية. ومن ذلك ما قام به ابن عربي في تأويله للنصوص التي تخص مصير فرعون، حيث اظهره بانه من الناجين من العذاب والنار32. وكذا ما قام به صدر المتألهين في تأويله للآية: ((ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا))33، اذ قلب حقيقة الظاهر فيها واعتبرها تعني بأن الله قد حكم بكفر من اعتبر النبي ذا حقيقة بشرية، خلافاًللظهور اللفظي للاية وسائر الايات34. ومثل ذلك ما قام به حيدر الاملي والقيصري من تأويل اية الامانة: ((إنّا عرضنا الامانة على السماوات والارض والجبال فابيْنَ ان يحملنها واشفقْنَ منها وحملها الانسان، انه كان ظلوماً جهولاً))35، فقد اعتبر الاملي بأن ما ورد في الاية من وصف الانسان بالظلم والجهل لا يعد ذماً، بل هو مدح لا يفوقه مدح اخر36. وقبله كان القيصري يرى ان معنى الاية هو ان الانسان ظلوم لنفسه مميت اياها بافناء ذاته في ذات الله تعالى، وانه جهول لغيره بحيث انه ينسى كل ما سوى الحق، وينفي ما عداه بقوله: «لا اله الا الله»37.

إذاً فهناك تفاوت في الاستظهار والتأويل، وهناك حالات وسطى للآليتين السابقتين. والامر سيان بشأن الالية الرمزية، كما يدل على ذلك ما سبق ايراده حول المجال المجازي.

ثامناً:

وفقاً لما سبق نخلص الى ان تحقيق الآليات الثلاث (الاستظهارية والتأويلية والاستبطانية) يتم عبر عدد من الشروط لها صلة بالموقف من عاملين، هما: الظهور اللفظي والمجال. فمن خلال هذين العاملين تتميز الآليات الثلاث السابقة، اذ تتعين ماهية كل منها وفق شكل العلاقة التي يحددها عامل الظهور اللفظي والمجال، كما يتبين معنا كالتالي:

 

1ــ الالية الاستظهارية

يشترط العمل بهذه الالية تحقيق شرطين اساسيين، الاول: أن لا يخرج الفهم او القراءة عن الظهور المجالي للنص. أي أن لا يتحول الفهم من المجال الظاهر الى مجال اخر مختلف. أما الشرط الثاني: فهو أن يكون الفهم قائماً على الظهور اللفظي للنص، بغض النظر عن ماهية الاسباب والدوافع التي تعمل على تشكيل صورة هذا الظاهر، والتي منها الخزين الذهني للقبليات المعرفية.

إذاً فلهذه الالية شرطان ينبغي الحفاظ عليهما، هما المجال والظاهر، وان الاخذ بالظاهر يقتضي الاخذ بالمجال من دون عكس.

2ــ الالية الاستبطانية

وشرط هذه الالية التخلي عن كلا الشرطين من القراءة الاستظهارية الانفة الذكر، فهي لا تحتفظ بالمجال كما يطرحه النص، كما انها تبعاً لذلك لا يمكنها المحافظة على ظاهر لفظ النص. فعدم الحفاظ على المجال يفضي الى عدم الحفاظ على الظاهر من دون عكس. وخاصيتها الاساسية العمل ضمن مجال مختلف جديد لا يمت بصلة الى المجال المطروح. او يمكن القول انها تعمل على استبدال المجال الظاهر بمجال اخر، هو ذلك الذي يتحدث عن (الخبز والشعير!)، وان مبرر هذه الممارسة قائم على ما لبعض المنظومات المعرفية من دوافع اسقاطية عند قراءتها للنص الديني، فهي بحسب قبلياتها المعرفية تقرأ النص وفق المجال الذي تفكر فيه، ومنه يتحول الظهور اللفظي الى رمز يشير الى مضامين هذا الفكر. وابلغ من مارس هذا الدور من الالية الاستبطانية هو النظام الوجودي، لا سيما منظومته العرفانية وتلك الموصوفة بالباطنية (الاسماعيلية).

3ــ الالية التأويلية

تتصف هذه الالية بأنها وسط بين الالية الاستظهارية والالية الاستبطانية. فهي تتقوم بشرطين، احدهما مرتبط بالالية الاستظهارية، والاخر مناط بالالية الاستبطانية. كما انها في القبال تتخلى عن شرطين لكل منهما. فهي تحافظ في قراءتها على الظهور المجالي دون ان تستبدله بمجال اخر بعيد، وهو ما يجعلها تتفق مع الالية الاستظهارية دون الاستبطانية. لكنها من ناحية اخرى لا تعمل بظاهر اللفظ، مما يجعلها تتفق مع الالية الاستبطانية دون الاستظهارية. فوظيفتها محددة - إذاً - بالقراءة التي تعمل على تأويل الظهور اللفظي ضمن المجال الذي يلوح في افق النص، استناداً الى القبليات المعرفية وعلى رأسها تلك التي تتصف بالطابع المنظومي. ويكفي ان نحدد شرطها بكونها لا تعمل بالظهور اللفظي، حيث يفهم من ذلك انها تحتفظ بالمجال فقط، او نقول بأنها تحتفظ بالمجال فحسب، حيث يفهم من ذلك أنها لا تعمل بالظهور اللفظي.

***

هكذا ننتهي من حيث المقارنة بين هذه الآليات الثلاث؛ الى ان خاصية الالية الاستظهارية هي الحفاظ على الظهور اللفظي، لان هذا الفعل يقتضي في الوقت ذاته الحفاظ على المجال من دون عكس. بينما الالية الاستبطانية هي على الضد من الاولى، حيث خاصيتها الاساسية ترك المجال وابداله بآخر بعيد، مما يقتضي عدم الحفاظ على الظهور اللفظي من دون عكس. في حين ان الخاصية الاساسية للالية التأويلية هي خاصية جهوية او نسبية، حيث يمكن تحديدها بعدم الاخذ بالظهور اللفظي، وفيه ان هذا التحديد لا يقتضي اهمال المجال وتركه. كما يمكن تحديدها بانها تعمل وفق المجال فحسب، وفيه يفهم انها لا تعمل بالظهور اللفظي. فهذه الالية تحمل اقتضاءاً من جهتين، خلافاً للآليتين السابقتين، حيث كل منهما يحمل اقتضاءاً من جهة واحدة لا اثنتين.

وبعبارة اخرى، تتصف الالية الاستظهارية بأنها تعمل على مراعاة سياق النص في اخذها بالظهور اللفظي والمجال، او يكفي ان نقول انها تحافظ على الظهور اللفظي، فذلك يقتضي الحفاظ على المجال.

وان الالية الاستبطانية تعمل على الضد، فلا تأخذ بالمجال مما يقتضي عدم مراعاة السياق بتركها للظهور اللفظي، لذا يكفي القول انها لا تحافظ على المجال، فذلك يقتضي عدم الحفاظ على الظهور اللفظي.

وان الالية التأويلية تتخذ الطريق الوسطى، حيث تحتفظ بالمجال لكنها لا تراعي السياق في حمل اللفظ على الظاهر، او يمكن القول انها تحافظ على المجال فحسب، فذلك يعني انها لا تحافظ على الظهور اللفظي، او القول انها لا تحافظ على الظهور اللفظي فحسب، مما يعني انها تعول على المجال.

ويمكن التعبير عن الفوارق بين الآليات الثلاث بالصيغة الرياضية كما يلي:

الظاهر + المجال ← الإستظهار

- المجال – الظاهر ← الإستبطان

المجال – الظـاهـر ← الـتـأويـــل

ولو رمزنا للإستظهار بحرف (هـ)، وللإستبطان بحرف (ط)، وللتأويل بحرف (ي)، وللظاهر بحرف (ظ)، وللمجال بحرف (م)، فإن العلاقة ستكون كما يلي:

ظ + م ← هـ

- م – ظ ← ط

م – ظ ← ي

كما يمكن التعبير عن ذلك بالاشكال الهندسية كما يلي:

ظ

م

 

 

م

 

   آليات القراءة
  |-------|--------| 
استظهار      استبطان       تاويل  |         |             |

 

 

اما العلاقة بين الآليات من حيث القراءتين الاشارة والايضاح او التفسير، فيمكن تقريبها عبر الرسم البياني التالي:

اشارة + علاقة ايضاح

1محمدبنأحمدالذهبي: تذكرةالحفاظ،دراسةوتحقيقزكرياعميرات،دارالكتبالعلمية،بيروت،الطبعةالأولى،1419هــ1998م،عنشبكةالمشكاةالإلكترونية،ج1،ص155. والجويني: الشاملفيأصولالدين،تحقيقعليساميالنشاروفيصلبديرعونوسهيرمحمدمختار،ص551.

2القصص/25.

3البقرة/67.

4ال عمران/200.

5مريم/4.

6دلائلالاعجاز،ص66 و262ـ263. كذلك: الفخرالرازي: نهايةالايجازفيدرايةالاعجاز،تحقيقودراسةبكريشيخامين،دارالعلمللملايين،بيروت،الطبعةالاولى،1985م،ص106.

7الانفال/17.

8 مؤيد الدين الجندي: شرح فصوص الحكم، تعليق وتصحيح جلال الدين اشتياني، انتشارات دانشگاه مشهد، ايران، ص602. وابو العلا عفيفي: فصوص الحكم والتعليقات عليه، دار احياء الكتب العربية، 1365هـ ـ1946م، ج1، الفص الثاني والعشرون، ج1، ص185. كما لاحظ: كشف الغايات في شرح ما اكتنفت عليه التجليات، لم يعرف مؤلفه، تحقيق عثمان اسماعيل يحيى، مركز نشر دانشكاهي، طهران، 1367هـ، ص354.

9النمل/88.

10النور/35.

11 انظر للتفصيل: العقل والبيان والاشكاليات الدينية، ص127 وما بعدها.

12 فصلنا الحديث عن النظريتين الوجوديتين المشاكلة والمعاينة مضافاً الى نظرية التمثيل ضمن: الفلسفة والعرفان والإشكاليات الدينية.

13 انظر مثلاً: الزمخشري: تفسير الكشاف، مكتب الاعلام الاسلامي، قم، الطبعة الاولى، 1416هـ،ج3، ص 52. والفخر الرازي: التفسير الكبير، دار احياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، ج22، ص7.

14 ابن عربي: كتاب الاسفار، ضمن رسائل ابن العربي، جمعية دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، الطبعة الأولى، 1948م، ج1، ص 42.

15الزمر/30.

16الاسراء/72.

17النساء/157.

18تفسير ابن كثير، انظر: التفسير في:

http://www.alro7.net/ayaq.php?langg=arabic&sourid=4&aya=157.

19الروم/19.

20الحشر/2.

21آل عمران/13.

22النور/30.

23المدثر/4.

24النعمانبنحيونالمغربي: تأويلدعائمالاسلام،أوتربيـةالـمؤمنين،ضمنمنتـخباتاسماعيلية،تحقيقعادلالعوا،مطبعةالجامعةالسورية،1378هــ1958م،ص36.

25التوبة/123.

26الزركشي: البرهانفيعلومالقرآن،دارالفكر،1408هـ- 1988م،ج2،ص187. وانظرايضاًماذكرهابنعربيفيانتزاعمعنىمحاربةالنفسوجهادهامننفسالايةالمشاراليها(الفتوحاتالمكية،مصدرسابق،ج1،ص572).

27طه/12.

28 مشكاة الانوار، ضمن مجموعة رسائل الامام الغزالي (4)، ص21-22. وانظر بهذا الصدد: النظام الوجودي وفهم الاسلام.

29دايفيد جاسبر: مقدمة في الهرمنوطيقا، ترجمة وجيه قانصو، الدار العربية للعلوم ـ منشورات الاختلاف، الطبعة الاولى، 1428هـ ـ 2007م، ص64.

30 انظر مثلاً: عبد الجبار الهمداني: تنزيه القرآن عن المطاعن. ومتشابه القرآن. ورسائل الشريف المرتضى، ج2.

31انظرمثلاً: الباقلاني: التمهيد.

32اوردناذلكمعالكثيرمنالنصوصالتيقامبتأويلهاابنعربيوغيرهمنالفلاسفةوالعرفاءضمن حلقة (النظام الوجودي وفهم الاسلام).

33التغابن/6.

34صدرالمتألهين: اسرارالآيات،مقدمةوتصحيحمحمدخواجوي،انتشاراتانجمناسلاميحكمتوفلسفهايران،1402هـ،ص143ـ144.

35الاحزاب/72.

36جامعالاسرارومنبعالانوار،ص21.

37داودبنمحمودالقيصري: مطلعخصوصالكلمفيمعانيفصوصالحكم،منشوراتانوارالهدى،الطبعةالاولى،1416هـ،ج1،ص165.

comments powered by Disqus