-
ع
+

قبليات المعرفة: منضبطة وغير منضبطة

يحيى محمد

ليس الذهن صفحة بيضاء خالية ليملى عليه موضوع الادراك. فالادراك لا تقوم له قائمة من غير قبليات. والمعرفة التصديقية لا تتأسس بدونها. والمنهج المحض يعجز عن ايضاح كيف تبنى المعرفة من غير مبادئ اساسية؛ كمبدأ السببية العامة ومنطق الاحتمالات العقلية التي تتأسس عليها قاعدة الاستقراء وما الى ذلك من القبليات المنضبطة.

والشيء ذاته يمكن قوله حول العلم. فمن ضمن المسلمات العلمية التسليم بمبدأ السببية العامة كمبدأ ميتافيزيقي، وهو مما لا غنى عنه في العلم كما صرح بذلك كارل بوبر، وما قاله باشلار من أن العلم وإن امكنه أن يستبدل ميتافيزيقا بأخرى، لكنه ليس بوسعه تجنبها مطلقاً. اضافة الى أن العلم يحتاج إلى المبادئ القبلية المحايدة مثل منطق الاحتمالات العقلية ودور الاستقراء في الكشف.

ومن وجهة نظر البعض ان هناك نظريتين في المنهج العلمي؛ احداهما ترى الذهن لا يضيف للمعرفة شيئاً، بل يسجل ما يملى عليه من كتاب الطبيعة. وتعتبر هذه النظرية ان كل فاعلية ذهنية انما هي تشويه وتحريف للمعرفة الحقيقية. واغلب تابعي هذه المدرسة هم عبارة عن التجريبية التقليدية. أما النظرية الأخرى فتسلّم بأن من غير الممكن قراءة كتاب الطبيعة دون النشاط الذهني. اي ان تفسير الطبيعة لا يكون الا في ضوء توقعاتنا ونظرياتنا. فقد ولدنا - اساساً - مع هذه التوقعات (expectations)، اذ بها ادركنا العالم الخارجي في عالمنا الذاتي كسجن محتم.

ان فكرة كوننا نحيا ونموت في سجن التركيب الداخلي لذاتنا قد ظهر ابتداءاً مع الفيلسوف الالماني(عمانوئيل كانت)، وأن الكانتيين المتشائمين مالوا الى استحالة معرفة العالم بسبب هذا السجن الذاتي. في حين اعتقد الكانتيون المتفائلون بان الله خلق تركيبتنا العقلية لتطابق ما عليه العالم الخارجي. لكن المنظرين ذوي النشاط الثوري ذهبوا الى امكان ان تتحسن هذه التركيبة وتتطور بل وتستبدل بأُخرى جديدة افضل. فنحن الذين نخلق سجوننا الذاتية، لكن يمكننا هدمها من خلال النقد ايضاً1.

لقد كان هناك صراع بين العقليين كما يتمثل بالفيلسوف عمانوئيل كانت، والتجريبيين كما يتمثل بستيوارت مل، وكان كل من الطرفين يرى المعرفة العلمية رؤية مشبعة بالقطع واليقين. فالعقليون، كما هو الحال مع كانت، اعتمدوا على المبادئ القبلية التركيبية في تحديد القضايا الخارجية، والتجريبيون اعتمدوا على الدليل الاستقرائي. لكن كليهما اصبحا مرفوضين اليوم، فالكانتيون نُقدوا من خلال الهندسة غير الاقليدية، وكذا الفيزياء غير النيوتنية. اما التجريبيون فقد نُقدوا من خلال الاستحالة المنطقية لتأسيس اي اساس تجريبي، مثلما اشار كانت بان الحقائق الخارجية لا يمكن ان تثبت القضايا2.

مهما يكن فالعلم يعتمد على مسلمات اساسية من دونها لا تقوم له قائمة، كتسليمه بوجود واقع موضوعي خارجي يقام عليه البحث والكشف كالذي يقوله أينشتاين الذي انتقد الوضعية المنطقية بإعتبارها تعد مثل هذا التفكير ليس له معنى، فسؤال مثل: هل هناك شيء مستقل عن الإدراك؟ هو بنظر الوضعية المنطقية سؤال ميتافيزيقي يتضمن اللغو من دون معنى. لكن أينشتاين عجب من ذلك لأن هدف الخطة الفيزيائية يتعلق بوصف الحالات والحوادث الحقيقية، وبالتالي فلا بد من أن تكون مفترضة الوجود من دون البرهنة عليها أو القيام بالكشف عنها من خلال الرصد والمشاهدة. أي أن الفيزياء تفترض مسبقاً وجود الأشياء ومن ثم بعد ذلك تعمل على وصفها وتفسيرها3. وقد أصبح التصور المعاصر للعلم الطبيعي كما يقول الباحث تريج (Trigg) هو كالفهم الديني ينتابه شك في إقترابه من الحقيقة الموضوعية. فكما ذكر الأستاذ دريس (Drees) بأن التركيز على حقائق الواقع التي نعتمدها بالإستناد إلى العلم إنما تتم عبر صياغة ميتافيزيقية. فالعلم الحديث يحمل إفتراضات كبيرة قبل قيامه بأي عمل علمي؛ ليس أقل من إفتراضه الميتافيزيقي بأن هناك واقعاً يُفحص. وبالتالي فإن الواقع مفترض أكثر منه موضح. ومن ثم فهناك فراغ أو ثغرة بين الفهم العلمي وبين العالم الذي نحاول وصفه4.

ويعد العلماء مثل هذه الإفتراضات المشار إليها سلفاً ضرورية لتكوين العلوم الطبيعية، ولولاها ما كان بالإمكان إنشاء أي علم. والبعض يصفها بأنها إفتراضات فلسفية.

وعلى العموم ان لدى المنهج العلمي قبلياته المنضبطة فضلاً عن غير المنضبطة، والحال ذاته ينطبق على مسألة الفهم الديني، اذ يستحيل ان يقام الفهم من غير قبليات منضبطة تحكمه. فللقبليات أنواع واصناف مختلفة يتقوم بها الفهم، مثلما يتقوم بها الادراك والعلم، كالذي عرضناه في دراسة مستقلة.

ومن حيث الاساس تنقسم القبليات الى قبليات صورية وتصديقية، كما تنقسم الاخيرة الى قبليات منضبطة وغير منضبطة. وينطبق هذا الحال على كل من القضايا الادراكية والعلمية ومثلها قضايا النص. اذ يتم صنع صور الاشياء الخارجية عبر جهاز الاحساس الصوري للذهن، ومثل ذلك تتم صياغة معنى النص عبر الاطار المعنوي للذهن، مع الاخذ بعين الاعتبار ان النص ينطوي على امر معرفي، وهو ما يجعل التماس به متأثراً بذلك الاطار فيظهر كمعنى متبادر. وقد يفرض هذا المعنى نفسه ويتحول من مجرد تصور بسيط الى معنى تصديقي طبقاً لتداول اللفظ واستخدامه. وبما ان اللفظ لا يحافظ على معناه الاصلي عبر تغاير الواقع والزمان عادة؛ فذلك يجعل من معنى النص مصاغاً بفعل ما اكتسبه الذهن من معنى في الخارج. الامر الذي يعرضه لتأثير القبليات غير المنضبطة عليه، كما سنعرف.

فرغم حركية النص الديني وتفاعله مع الواقع حال نزوله وتداوله؛ لكننا نعلم ما يترتب عليه من اختلاف المعنى وتفاوته. فكيف الحال حينما ذهبت هذه الحركية الكاشفة؟! فالذين عاصروا النص تعاملوا معه كعنصر حركي فاعل وجدلي مع الواقع، مما جعل فهمهم مقارباً لمقاصده، طالما اقترن بالعناصر المساعدة على الفهم، كالحركية والجدل، خلافاً لتعاملنا معه، فنحن نتعامل مع نص مجرد يفتقر الى هذه العناصر المساعدة، مما يصعّب علينا فهمه بالدرجة التي يكون فيها مقارباً لمقاصده.

بل يعمل الذهن على تقديم البدائل لملئ فراغات (الجهل)بالمعاني المكتسبة من الخارج. وبذلك يظهر تأثير الواقع على الفهم كأبرز السنن الفاعلة. فتارة ان تغير الواقع يبعث على تغير الفهم بالشكل المطروح، واخرى يبعث على تغير الفهم طبقاً للايديولوجيا.

هكذا فإن ما يتحقق من معنى النص أي نص كان -هو صنع مشترك بين ما يحمله النص من معنى كما يتمثل في هيئته الخاصة، وبين ما يضيفه ذهن القارئ من معنى. وفي حالة النص الديني – كالقرآن مثلاً - يكونالنتاج مشتركاً بين المعنى الذي يحمل بعض ظلال العرف الخاص بالنزول، والمعنى المتحول عبر الزمان، او بين الماضي والحاضر، حيث تعاد صياغة المعنى بما يناسب الحاضر.

ومن حيث الدقة فإن الحاضر يؤثر في فهم الماضي، كما أن الماضي يؤثر في فهم الحاضر، فأحدهما يؤثر في الآخر، لكن في المحصلة فإن كلاً من النص والحاضر والماضي يساهم في التأثير على ذات القارئ، فهذا الأخير ليس معزولاً عن تقاليد الماضي عبر العصور، مثلما انه غير معزول عن الحاضر، لكن اندماج الماضي في الحاضر يجعل منهما وحدة مؤثرة على القارئ كتأثير النص عليه. وهنا يصبح >النص< - او الفهم بالاحرى - نسيجاً فسيفسائياً يجمع في طياته أزماناً وطبقات تاريخية مختلفة لمعاني الكلمات وسياقاتها. فلمعنى كل كلمة وسياقها زمانها التاريخي، وباجتماع الكلمات او المعاني تجتمع الازمان سوية ضمن نسيج >النص< الفسيفسائي، وكل ذلك ما نعبر عنه باجتماع الماضي والحاضر، مما له أثره على ذهن القارئ، ومما يجعل التناص حاضراً في النص او الكاتب او القارئ بقوة. ففي التحليل والتقطيع يمكن ارجاع معاني النص الى معان مستعارة وفق ازمان تاريخية مختلفة.

لذا كان غادامير يرى بأن الحصيلة المعرفية من عملية الفهم هي دمج افقين معاً: افق النص، وافق القارئ، اي دمج افقي الماضي والحاضر، او ما يعبر عنه بإنصهار الآفاق، لأن لكل جيل تاريخي افقه الخاص والذي يمكن أن يؤثر به على ما بعده من أجيال 5.

ويشاطر ريكور مذهب غادامير في إنصهار الآفاق بوجهة نظر مشابهة6. وهو يرى بأن هناك شراكة بين النص والقارئ لانتاج الفهم والتأويل، يكون فيها >النص أخرس لا صوت له<، أما القارئ فهو الذي يتحدث بلسانه نيابة عنهما معاً. فالنص أشبه بقطعة موسيقية، والقارئ أشبه بعازف الأوركسترا الذي يطيع تعليمات النغم7.

وعلى العموم، إن الفهم لدى غادامير يتحقق بفعل مشترك لكل من التأثير الموضوعي المتمثل بالنص وافق الماضي من جهة، والتأثير الذاتي المتمثل بافق القارئ وثقافته العصرية من جهة ثانية. فالفهم بهذا الاعتبار لا يتضمن منهجاً محدداً استناداً الى البعد الذاتي من عملية الفهم، وهو البعد المتعلق بالقبليات غير المنضبطة التي من المحال ان تدخل ضمن اطار منهجي، وبالتالي فلا جدوى من الحديث عن وجود قواعد مناسبة تحدد عملية الفهم بما يجعلها تقترب او تطابق ما عليه النص كشيء في ذاته.

لهذا الاعتبار اعتقد غادامير بأن الهرمنوطيقا حاضرة - على الدوام - عندما يبدأ البشر بالفهم، من دون مخطط لعلم المنهج. بل ان الهرمنوطيقا تقف ضد طبيعة العلم المنهجي. وقد تأثر فيلسوفنا هذا بقاعدة استاذه هايدجر الخاصة بتحكم الاحكام القبلية في الفهم، وهي القاعدة التي عُدّت غاية في الاهمية لدى مفكري القرن العشرين8. وتأكيداً لذلك اعتبر غادامير أننا في عملية الفهم نسقط ابتداءاً - وعلى الدوام - نظرتنا اللغوية للعالم على النص، اذ نحن نجد اللغة جاهزة امامنا وهي تحمل المعاني الخاصة بالعالم، وكل ذلك يتم اسقاطه على فهمنا للنص، باعتباره يحمل ألفاظاً لغوية لها معانيها المألوفة لدينا سلفاً. وكما يقول: ان هناك دوماً وساطة تضمن التواصل بين نظرتنا اللغوية للعالم ولغة النص9.

مما يعني أنه سواء بتصورنا للعالم، او فهمنا للنص هناك شيء من النزعة الهرمنوطيقية او التأويلية التي يتعذر تجنبها بفعل نظرتنا اللغوية المألوفة، وكل ذلك يجري دون مخطط لعلم المنهج.

وقريب من رؤية غادامير ما عبر عنه المفكر الصدر في (اقتصادنا) بقوله: «وحتى لو تأكدنا احياناً من صحة النص، وصدوره من النبي او الامام، فاننا لن نفهمه الا كما نعيشه الان، ولن نستطيع استيعاب جوه وشروطه، واستبطان بيئته التي كان من الممكن ان تلقي عليه ضوءاً»10.

ويلاحظ انه عندما يؤكد غادامير على عدم امكان تجاوز حقيقة تدخل ذات القارئ او المأول في عملية الفهم، ومثله التفكير في مختلف مجالات العلوم، فإن ما يحضر في باله تلك المفاهيم والنوازع الذاتية الخاصة، لا سيما تلك المتعلقة بالقبليات غير المنضبطة، باعتباره يركز على اثر العصر في النوازع الذاتية بكل ما يحمله من لغة وثقافة وروح ونزوع. لكن اذا قدّرنا بأن القارئ يمكنه الاستعانة في بعض درجات الفهم بالقبليات المنضبطة المشتركة، والتي منها ما تكون ضرورية، كما منها ما تكون محايدة منطقية، فإن ذلك سيلغي التعميم الذي افاده باستحالة تجاوز النواحي الذاتية، فاثبات جزئية واحدة موجبة يفضي الى اثبات القضية على النحو الكلي كما يقول المناطقة. فمثلاً لو أننا سلمنا بأن الواحد المضاف الى واحد مثله لا يكون الا اثنين، فإن ذلك يكفي للاعتقاد بوجود احكام ضرورية تحمل الوجوب والاستحالة. وكذا هو الحال في الفهم، فلو اننا تمكنا من ان نصل الى فهم موضوعي مهما كان محدوداً وضيقاً فذلك يبرر الاقرار بوجود احكام موضوعية تتجاوز الإنزلاقات الذاتية والتسربات المرتهنة بالقبليات الخاصة ومنها تلك المتصفة بكونها غير منضبطة، بما فيها القبليات اللغوية المألوفة، رغم ان من المحال تجاوز القبليات على اطلاق. وهذا هو الفارق فيما ندعو اليه قبال النزعات الحديثة التي تقر عدم امكان تجاوز المسلمات الذاتية الخاصة، ومنها طريقة غادامير. فلا بد من التمييز بين الأنواع الخاصة للقبليات المعرفية، فمنها ما لا يمكن تجاوزه بأي شكل من الاشكال، باعتبارها منطقية محايدة، او مشتركة، كما منها ما يمكن تجاوزه ضمن حدود نسبية.

وعلى العموم ان القبليات غير المنضبطة هي قبليات ذاتوية (نفسية) لِما تتأثر به الذات بمختلف التأثيرات التكوينية والمكتسبة، اي تلك الناتجة عن العوامل النفسية والفسلجية والجينية والبيئية. فاغلب المعارف البشرية، ومنها الدينية، ليست محصنة من هذه التأثيرات. فبفعلها تتكون الميول النفسية وتمتزج مع القضايا المعرفية بغض النظر عن طبيعتها العلمية. وهذا الامتزاج او الاتحاد يخفي - عادة - مظاهر تلك التأثيرات على المعرفة. ومن الامثلة عليها ما يقال عن تأثير الحرب العالمية الاولى على نظرية هايزنبرج في مبدأ اللاتحدد الالكتروني11، وتأثير البلدان على المدارس الفقهية. وحول هذه القبليات يدور ما أطلق عليه بيكون أوهام الكهف، وعليها تتشكل القراءة البرانية، خلافاً للقبليات المنضبطة التي تتأسس عليها القراءة الجوانية.

لقد سبق ان عرفنا بان الذهن يعجز عن ممارسة وظيفته من الادراك والعلم والفهم من غير قبليات، على الاقل فيما يخص القبليات المنضبطة. فكل معرفة تتعلق بالموضوع الخارجي لا بد من ان تتولد عبر عدد من القبليات المنضبطة، سواء كان ذلك بوعي او دون وعي، وسواء كانت هذه المعرفة صحيحة ام خاطئة. وينطبق هذا الحال على كل من الفهم والعلم والادراك، رغم ان معارفنا غير محصنة في الغالب من تأثير القبليات غير المنضبطة. فقد تتعارض قبليات النشاط الذهني المنضبطة مع القبليات غير المنضبطة، وتعمل الأخيرة على تجاوز وهدم القبليات المنضبطة، مثلما يقوم «المتبقي» بتجاوز نظام اللغة وهدمه؛ كالذي يراه فيلسوف اللغة لوسركل في (عنف اللغة).

كما قد يتحد تأثير كلا النوعين من القبليات في التوليد والفهم المعرفي، فتكون النتائج المعرفية مصنوعة بفعل عاملين، احدهما موضوعي، بفعل القبليات المنضبطة، والاخر ذاتي بفعل القبليات غير المنضبطة. وبذلك نواجه ازمة تتعلق بكيفية التخلص من العوامل الذاتية، والتمييز بينها وبين نظيرتها الموضوعية، ومن ثم الاطمئنان بان ما نفعله انما يتم بمعزل عن التأثير الذاتي الخاص بالقبليات غير المنضبطة، سواء في الفهم او العلم او الادراك.

ولتمييز القبليات المنضبطة عن غيرها؛ نقول ان للاولى الدور الاساس في تحديد المعرفة، اياً كانت، سواء جزئية او كلية، وبها تتأسس عوالم الادراك والعلم والفهم، خلافاً للقبليات الاخرى التي تتشكل وفق الصيرورة المعرفية دون ان يكون لها الدور الاساس في بناء العوالم المذكورة، اذ يمكن تجنبها هنا وهناك، وان كان يستحيل تجنبها على طول الخط. وقد يعتمد الأمر على نوع القضايا المبحوثة وعلاقتها بدوافع الباحث، فغالباً ما تتأثر الدراسات الانسانية، ومنها الفهم الديني، بالعوامل الذاتية والايديولوجية، في حين يقل ذلك في الدراسات العلمية الطبيعية. لذا فمن حيث المبدأ يمكن تجنب التأثير الذاتي في بعض القضايا البعيدة عن النوازع والاهواء البشرية. وإن كان من المحال مسح الطاولة من التأثير الذاتي على العوالم الثلاثة الانفة الذكرتماماً.

كما يمكن التمييز بين هذين النوعين للقبليات من حيث الوظيفة، اذ يلاحظ ان للقبليات المنضبطة وظيفة تحديد الفهم العلمي، سواء حصل ذلك بوعي منهجي او دون وعي. فحتى لو كانت هذه القبليات تفضي الى نتائج بعيدة كلياً عن المطلوب فستبقى علمية طالما أنها تحتفظ بالقواعد المنهجية المتبعة في تعاملها المتسق مع الموضوع كالنص مثلاً. وعلى العكس منها القبليات غير المنضبطة، فهي لا تحدد الفهم العلمي، اذ لا تستند الى قواعد محددة، وانما تتأثر بعوامل متعددة، كالدوافع الايديولوجية والنوازع الذاتية البعيدة عن غرض الكشف العلمي، كما يظهر في حالات الدفاع عن المذهب او الطبقة، او حالات كسب المصالح السياسية او الاجتماعية او الشخصية او غيرها.

وقد يكون هذا التمايز ذاته مصدر الخلاف بين غادامير المتأثر باستاذه هايدجر، وبين دلتاي وقبله شيخ الهرمنوطيقا (شلايرماخر). فقد كان الاول يبحث في الخصائص الوجودية للفهم، او في المعنى الانطولوجي للهرمنوطيقا، في حين كان الاخر يبحث في قواعد الفهم المنضبطة لتوظيفها باتجاه الفهم الصحيح في قبال غيره من الافهام. لذلك عُرف بأن هناك تصورين للهرمنوطيقا مختلفين في الشكل والغرض، وهو ما يظهر من الخلاف بين غادامير وناقده بتي. فهذا الأخير اتبع دلتاي في بحثه عن الجانب العملي المفيد للفهم والتفسير، فكان غرضه طلب المعايير المعتمدة للتمييز بين التفسيرين الصحيح والخاطئ. أما غادامير فقد اتبع هايدجر وكان يبحث عن الصفة الوجودية لعملية الفهم، وكيف يدخل التراث في هذه العملية12. وهو امر يتعلق بالقبليات غير المنضبطة، عبر التأثير الذاتي للعوامل التكوينية والمكتسبة.

واذا كان هناك تضاد في المنهج المتبع لدى بتي وغادامير، او لدى من كان يرى الهرمنوطيقا هي التفسير، ومن يرى انها حالة وجودية، فإن ما يسفر عن عملية الفهم هو نتاج التأثير المتداخل بين الحالتين في الغالب. فيكون الفهم مزيجاً بين الشكلين العلمي وغير العلمي، فالأول نتاج تأثير القبليات المنضبطة، والثاني نتاج تأثير القبليات غير المنضبطة، سواء حصل ذلك بفعل ايديولوجي، او بفعل وجودي تكويني او مكتسب. وبالتالي يمكن للمجموعتين الاندماج سوية، فيختلط العلم والفهم بغيره، وهو الأمر الغالب في التفكير البشري، خاصة فيما يتعلق بالفهم الديني، مثلما قد يؤثر هذا الاندماج على البحث العلمي، ومن ذلك ما قيل عن نظرية هايزنبرغ بأنها ظهرت بفعل تأثير الحرب العالمية الاولى على نفسية هذا العالم الفيزيائي. وفي الفهم الديني شواهد كثيرة دالة عليه، كما هو حال الصراع المذهبي والكلامي. وكما يشير الغزالي الى ذلك في بعض نصوصه الدالة على رفض وقبول العلماء للقضايا العلمية طبقاً لما هو المألوف من التقليد والتلقين13.

والشيء ذاته حاصل لدى علماء الطبيعة، اذ كثيراً ما تمرر عليهم النظريات الخاطئة بعدوى التلقين، وقد يقومون بتجارب لإثباتها فيقعون فريسة الوهم بصدقها بسبب هذا العامل النفسي، كالذي يشير اليه الفرنسي (غوستاف لوبون) في عدد من الشواهد العلمية، وعلى رأسها ما يتعلق بأشعة (N). فكما ذكر بأن أحد أساتذة العلوم الطبيعية المشهورين (بلوندلو) ظن أنه شاهد كثيراً من الأجسام تنشر أشعة خاصة سماها أشعة (N) يمكن قياس موجاتها بدقة تامة، وبما أن هذا العالم الفرنسي كان ذا نفوذ كبير؛ لذا سلّم أكثر علماء فرنسا بصحة ادعائه من غير مناقشة، بل كرروا التجربة ذاتها بأنفسهم فرأوا صحة ما تلقنوه. ثم أن مجمع العلوم رأى بأن يكافئ صاحب هذا الاكتشاف الخطير فأوفد كثيراً من أعضائه – ومنهم العالم الطبيعي ماسكار – الى المكتشف ليتحققوا عنده من صحة نتائجه، فعادوا مشدوهين بما شاهدوه لديه، لذا منحه المجمع جائزة قدرها خمسون ألف فرنك. لكن عندما جاء علماء أجانب لا تأثير لعلماء فرنسا عليهم، وقاموا بتجارب عديدة حول الموضوع، رأوا أنه لا شيء يدعو للاعتقاد بوجود مثل تلك الأشعة، وقام بعضهم بإختبار الأمر أمام المكتشف، وسرعان ما تبين أن هذا الأخير ذهب ضحية أوهام لاحته عند القياس بمنشور من الزجاج، وعلى أثر ذلك نشرت (المجلة العلمية) بحثاً ضافياً حول الموضوع بينّت فيه أنه لا وجود لتلك الأشعة، بل ان العلماء وقعوا ضحية التلقين والعدوى14.

كذلك قد يكون التقليد من باب التسليم بالآراء القديمة المألوفة التي يركن إليها العلماء ولو خالفتها التجارب والمشاهدات، ومن ذلك ما يذكر إبان النهضة الغربية الحديثة، بأن العلماء التقليديين وأشباههم قد عارضوا آراء غاليلو وغيره من المبدعين، رغم أنها مدعمة بالشواهد والتجارب، تعويلاً على التسليم بنظريات أرسطو. ففي رسالة لغاليلو وجهها إلى كبلر ذكر فيها مثالاً مشهوراً، فقال: >آه يا عزيزي كبلر، كم كنت أود أن نشترك معاً في ضحكة مجلجلة. فهنا، في (بادوا) يقيم كبير أساتذة الفلسفة، الذي رجوته مراراً وبإلحاح أن ينظر إلى القمر والكواكب من خلال منظاري، فكان يرفض ذلك بعناد. ليتك كنت هنا معي، إذاً لإنفجرنا في ضحكات مدوية ونحن نصغي إلى هذه الحماقة الفريدة. حين نسمع أن استاذ الفلسفة في بيزا يكد ذهنه في حضرة الدوق الكبير بحجج منطقية، كما لو كانت تعاويذ، يستخدمها لجعل الكواكب الجديدة تختفي من السماء<.

لقد كان استاذ الفلسفة في غنى من أن ينظر عبر المنظار الفلكي طالما أن أرسطو لم يذكر أقمار المشتري، فهي بالتالي غير موجودة حتى لو كانت حقيقتها موجودة. وقد أشار غاليلو في مكان آخر إلى ان أرسطو خلافاً لتلاميذه التافهين ما كان ليزدري البراهين الجديدة المستمدة من الخبرة الحسية. وعلى هذه الشاكلة كان الفيزيائي والرياضي بليز باسكال يستنكر >جهالة أولئك الذين يتخذون من المراجع وحدها، بدلاً من العقل او التجربة، دليلاً في الفيزياء<15.

وفي المجال العلمي كثيراً ما يواجه العلماء صعوبة في تغيير وجهة النظر العلمية بعد أن تتوطد الفكرة جيلاً بعد آخر، تبعاً للإلفة والتقليد. فحول نظرية الأثير في فيزياء نيوتن، والتي تشبث بها بعض العلماء بإصرار رغم ما تتضمنه من تناقضات، كتب (ليوبولد انفلد) يقول: >الأحكام المسبقة عميقة الجذور لا تزول بسهولة. فالفيزيائي في القرن التاسع عشر لم يكن على استعداد للتخلي عن نظرية الأثير، لم يكن في وسعه إنكار الادلة المستمدة من التجارب، ولكنه كان يستطيع تغيير حجته<. لذلك فقد كان أبو الكيمياء الحديثة لافوازييه يحذر من هذه الأحكام المسبقة، وكما قال: >هذه الافتراضات التي ما برحت تتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل، تكتسب وزناً إضافياً من تأييد الثقات لها إلى أن تقبل آخر الأمر كحقائق أساسية حتى من جانب العباقرة<16.

ويلاحظ أن الفكر الغربي الحديث قد ركز على القبليات ذات العلاقة بالنزعات الذاتية، وهي نزعات يمكن أن تتلبس بلباس القبليات المنضبطة، او أنها توظف هذه الأخيرة توظيفاً لدواع غير موضوعية، فهي في كل الأحوال عبارة عن جميع المعارف الذهنية التي يتم اسقاطها بتعسف على مادة البحث، سواء كان ذلك عن وعي او بلا وعي، وكذا سواء نتج ذلك عن قواعد متقنة ومقصودة، او كان الأمر من غير قواعد محددة. وأصبحت المشكلة التي تواجه هذا الفكر تتحدد بالتفرقة الخاصة بين العلوم الطبيعية الدقيقة والعلوم الانسانية المتمشكلة بالنزعات المشار اليها. فمع أن المدارس الوضعية تسعى لجعل العلوم الانسانية على شاكلة العلوم الطبيعية من حيث خضوعها للمناهج الدقيقة الصارمة، لكن أغلب التيارات الحديثة تجد فارقاً كبيراً بين هذين النوعين من العلوم، وغالباً ما يحضر في بال هذه التيارات هو أن العلوم الانسانية لا يمكنها ان تخضع للمناهج الدقيقة باعتبارها مبتلاة بالنزعات الذاتية للباحث او القارئ. وكان على رأس من ميّز بين هذين النوعين من العلوم المفكر دلتاي. وظلت هذه الاعتبارات قائمة؛ حتى أن غادامير وانطلاقاً من النزعات الذاتية نفى وجود منهج للفهم والتأويل، خلافاً لما هو معهود لدى الدراسات العلمية الدقيقة.

وبعبارة اخرى تم التمييز بين النوعين السابقين للعلوم وفقاً لمعنى التفسير والتأويل، فالتفسير يسعى لان يكون مقنعاً ويعرض نفسه بلا منازع على منافسيه، في حين ان التأويل يرتضي ان يكون واحداً من جملة تأويلات عديدة. ان التفسير يطمح الى ان يكون حقيقياً، في حين يكتفي التأويل بان يكون صحيحاً. لذا فالعلوم الطبيعية ترمي الى التفسير دون جدال، اما العلوم الاجتماعية او الانسانية فهي تأويلية17.

وبذلك فهناك اتجاه للهرمنوطيقا تلعب النزعات الذاتية فيه دورها الأعظم في الفهم والقراءة، ومن ثم تتشعب فيه التأويلات. وفي قباله يوجد اتجاه للإبستيميا يتصف بالاعتبارات الموضوعية، كما هو الحال في البحث العلمي الدقيق لقضايا الطبيعة، وبالتالي تضيق فيه التفسيرات.

ومع ان الاتجاه الثاني يمتاز بالكمال مقارنة بالاول، فهو دقيق وصارم وجانب الموضوعية فيه عالية، لكن السؤال المطروح: هل يمكن تحويل الاتجاه الاول الى الثاني، على الأقل بحدود القراءة، فتكون القراءة ابستيمية منطقية اكثر منها هرمنوطيقية؟

لا شك أن التيارات الحديثة في القراءة والتأويل تجد ذلك بعيد المنال ضمن ما يعرف بتأثر الفهم والتأويل بالنواحي الذاتية، وبالتالي تظل القراءة هرمنوطيقية وليست ابستيمية. لكن في قبال ذلك نجد العلوم الطبيعية الدقيقة لم تنفصل كلياً عن النزعات الذاتية والايديولوجية، وقد رأى بعض المفكرين في النزعة الهرمسية ما يلابس الكثير من التفكير العلمي لدى علماء الطبيعة، فكما يقول ايكو: >لقد أثبت التاريخ أنه من الصعب أن نفصل بين التيار الهرمسي وبين التيار العلمي، وبين باراسيلس وبين غليلو. فقد مارست المعرفة الهرمسية تأثيرها على فرانسيس بيكون وعلى كوبرنيك، كما مارست هذا التأثير على كبلر ونيوتن. ولقد ولد العلم الكمي الحديث عبر حوار مع المعرفة النوعية الهرمسية<18.

كذلك فان علماء الطبيعة يدركون احياناً الحاجة الى القراءات التأويلية أو الهرمنوطيقية للعلم، ومن ابرز ما نلاحظه بهذا الصدد علماء نظرية الكوانتم، فهؤلاء يدركون بأن نتائجهم العلمية البعيدة عن المسلمات الفلسفية الاساسية والحس المشترك العام تحتاج الى التأويل لهضمها وجعلها معقولة مقبولة او موافقة لهذا الحس. فمثلاً على رأي الفيزيائي رولان أومنيس أن هناك على الأقل ثلاثة أسباب للتأويل في الكوانتم: فهي من جهة صورية إلى درجة أنها بلغت الذروة في الغموض والإبهام. كما أنها أخذت تتضمن - وفق رأي علماء الكوانتم أنفسهم - وعي المراقب العلمي بعين الإعتبار، فأصبحت بذلك ذاتية وليست موضوعية خالصة. كذلك فإن نتائجها أدت إلى أن تتصادم مع الوجود اليقيني للحقائق الواقعية والمسلمات الأساسية19. فكل هذه الإعتبارات التي إنتهت إليها نظرية الكوانتم جعلت الحاجة إلى التأويل ماسة تماماً، وهو ما يجعل طريق العلم سالكاً للهرمنوطيقا من أوسع أبوابه.

هكذا فمثل هذه التصورات تقرّب علوم الطبيعة من التأويل الهرمنوطيقي، مما يعني ان من الصعب فصل البحث الابستيمي عن غريمه الهرمنوطيقي، لكن العكس يحصل ايضاً، وهو ان البحث الهرمنوطيقي يمكن تصعيده الى البحث الابستيمي، ولو ضمن حدود، بفعل اخذ القبليات المنضبطة المشتركة بعين الاعتبار، والتي لم تراعها التيارات الحديثة للقراءة والتأويل اهمية واعتباراً.

وعموماً نجد ان للعلم - والفيزياء بالتحديد -هرمنوطيقيته المفضوحة، كما نجد للفهم الديني في القبال ابستيميته الواضحة، وان الهدف من علم الطريقة هو التنقل بينهما كالذي بحثناه في (منهج العلم والفهم الديني).

يبقى ان نحدد القاعدة العامة للتمييز بين الفهم العلمي وغير العلمي، وذلك بالشكل التالي:

«كلما كان تأثير القبليات غير المنضبطة كبيراً؛ أصبح الفهم غير علمي بالقدر الذي تؤثر فيه هذه القبليات، سواء عبّرت هذه الأخيرة عن المعنى الآيديولوجي، او عن المعاني الذاتية الأُخرى التي لها تأثيرها على الذهن البشري، والعكس بالعكس. كذلك كلما كان تأثير القبليات المشتركة كبيراً كلما ازداد الفهم العلمي دقة، وعلى عكسه كلما ضعف تأثير هذه القبليات كلما تقلصت الدقة في هذا الفهم».

 

 

1 انظر: Lakatos, I. The Methodology of Scientific Reserch Programmes, Philosiphical Papers, Volume1, Editted by Jhon Worrall and Gregery Currie, First Published 1978, Reprinted 1984, Cambridge University Press
2 Lakatos, I. the methodology of scientific reserch programmes, philosiphical papers, volume1, editted by Jhon Worrall and Gregery Currie, first published 1978, reprinted 1984, cambridge university press.
3 انظر:Madden, E. H. ‘Introduction; Philosphy Problems of Phisics’ in: The Structure of Scientific Thought, Great Britian, 1968.
4 انظر:Trigg, R. Rationality and Religion, Blackwell, 1998, .
5 غادامير: فلسفة التأويل. كما انظر:Werner G. Jeanrod : Theological Hermeneutics, 1991, London, Macmillor.
6 نظرية التأويل.
7 نظرية التأويل،.
8 انظر:Werner, 1991
9 فلسفة التأويل،.
10 محمد باقر الصدر: اقتصادنا، دار التعارف، بيروت، الطبعة الحادية عشر، 1399هـ ـ1979م.
11انظر: جيمسبيرك: عندماتغيرالعالم،ترجمةليلىالجبالي،سلسلةعالمالمعرفة(185) الكويت،1414هـ-1994م. كذلككتابنا: القطيعةبينالمثقفوالفقيه، دار افريقيا الشرق، 2013م.
12 راجع: Richard E. Palmer: Hermeneutics: Interpretation Theory in Schleiermacher, Dilthey, Heidegger and Gadamer, 1969, p. 59
13 الغزالي: الإقتصاد في الإعتقاد، دار الأمانة ببيروت،،1388هـ -1969م، ص173.
14 غوستاف لوبون: الآراء والمعتقدات، نقله الى العربية عادل زعيتر، دار المعارف، سوسة – تونس، الطبعة الاولى، 1995م.
15 انظر: روبرت م. أغروس وجورج ن. ستانسيو: العلم في منظوره الجديد، ترجمة كمال خلايلي، سلسلة عالم المعرفة، عدد 134، 1989م.
16 العلم في منظوره الجديد.
17 ابحاث في النظرية العامة في العقلانية.
18 التأويل بين السميائيات والتفكيكية.
19 رولان أومنيس: فلسفة الكوانتم.
comments powered by Disqus