-
ع
+

القبليات المنضبطة ومرايا الفهم

يحيى محمد

من المعلوم ان جميع آليات فهم النص وقراءته تتحدد بحسب ما عليه القبليات المعرفية. فمن المحال على الذهن البشري ان يعمل دونها، سواء في معرفته للقضايا الطبيعية والخارجية، او في فهمه للنص، وما ذلك الا لكون المعرفة الخاصة بهذه القضايا هي معرفة حصولية لا حضورية، اي انها تحتاج الى الوسيط المعرفي الذي يتوسط بين القضية الطبيعية او النصية وبين الذهن البشري، وهو ما اطلقنا عليه القبليات.

فحتى الاشارة الظاهرية لا يسعها ان تستقل في الظهور من غير ان تتحدد سلفاً ببعض من تلك القبليات. وبالتالي فمن الممكن ان يتفاوت الظهور ويتعدد الظاهر تبعاً لاختلافها. فالظاهر لا يكون ظاهراً الا من حيث ظهوره للاذهان. وهذا الظهور لا يتشكل الا بفعل الرؤية القبلية التي تعمل على تشخيصه بالظهور، كرؤية العين لشيء امامها فتصفه بانه قلم اسود وليس احمر او اخضر، وانه ليس كتاباً او طاولة. لكن لمّا كانت الاذهان تختلف في قبلياتها باعتبارات كثيرة؛ لذا فقد يرى البعض شيئاً ظاهراً غير ما يراه البعض الاخر. ومن ذلك انه يمكن للنظام المعرفي ان يلعب دوره المميز في تحديد الظاهر.

فمثلاً رأى صدر المتألهين في قوله تعالى: ((إنّك ميّت وإنّهم ميّتون)) عين الظاهر والحقيقة، فالنبي ميت، وكذا الآخرون، بلا حاجة للتوجيه كالذي ذهب اليه بقية العلماء والمفسرين. والذي جعله يرى النص دالاً على الظهور والحقيقة هو قبلياته الوجودية. ومن ثم فقد قام بتفسير النص تبعاً لهذه القبليات التي تعترف بالظهور اللفظي، مؤكداً على وجود الموت والبعث والنشر والحشر الى الله تعالى في كل وقت من اوقات الحياة الطبيعية، فهناك رقي من نشأة الى اخرى، ومن مقام الى اخر، فالموت هو التحول والكمال في النشآت والمقامات1. في حين ان غيره من العلماء الذين ينتمون الى نظام معرفي اخر لا يرون النص دالاً على هذه الحقيقة، وما جعلهم يذهبون الى ذلك هو قبلياتهم المعرفية أيضاً، وبالتحديد القبليات الحسية التي تؤكد بأن النبي والاخرين عند الخطاب بهذا النص كانوا احياءً وليسوا ميتين.

وعلى هذه الشاكلة اخذ العرفاء بالظهور الحقيقي لقوله تعالى: ((كل شيء هالك الا وجهه))2، وقوله: ((كل من عليها فإن ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام))3، فبفعل القبليات الوجودية فإن النصين محمولان على الظهور الحقيقي للفظة الهلاك والفناء من غير توجيه، تبعاً لنظرية وحدة الوجود، فلا وجود لغير الله ازلاً وابداً، مثلما قيل: «الباقي باقٍ في الازل والفاني فانٍ لم يزل»4. وبالتالي فإن المعنى هو ان كل شيء هالك وفانٍ حقيقة وفي كل حال، لا ان الهلاك والفناء عند المآل كما هو الظاهر بحسب القبليات الحسية.

ومن الامثلة على تعدد الظاهر تبعاً لاختلاف القبليات المعرفية؛ ما جاء في فهم قوله تعالى: ((وما ظلمناهم ولكن كانوا انفسهم يظلمون))5، فظاهر النص قد يعني بأن النفس هي التي سبق لها الظلم، وذلك كاشارة الى العين الثابتة مثل الذي ذهب اليه العرفاء ضمن النظام الوجودي، وكأن المعنى يقول بأن نفوسهم المتمثلة بحقائق طبائعهم واعيانهم هي التي تظلم، فإليها تعود الحاكمية والجبرية6. كما قد يكون المعنى هو ان نفوسهم هي التي تظلم وليس اعيانهم الاصلية. وبالتالي فكما يمكن أن يتشكل الظاهر بالمعنى الثاني؛ فانه يقبل التشكل بالمعنى الاول كالذي تحدده القبليات الوجودية. وعلى هذه الشاكلة قد يرى بعض المفسرين ان لظاهر قوله تعالى: ((قل كل يعمل على شاكلته))7؛ سمة ارشادية لتوجيه الافراد للعمل بحسب ما يؤدونه من طريقة. لكن ظاهر هذا النص لدى التصور الوجودي لا يشير الى تلك السمة الارشادية، وانما يشير الى حقيقة ما عليه الافراد، فكل فرد يعمل بحسب ما هو عليه من الاستعداد والحقيقة الاصلية، كإشارة الى الاعيان الثابتة، فالمعنى من حيث التفسير هو ان كل فرد لا بد من ان يسير تبعاً لما يقتضيه الأصل والشاكلة التي عليه ماهيته او عينه الثابتة، وكلّ ميسر لما خُلق له مثلما جاء في الحديث النبوي8.

ومن ذلك ايضاً، يخضع تحديد الظهور في الحديث النبوي القائل: «خلق الله آدم على صورته»9؛ الى ما تحدده القبليات المعرفية، ومنها قبليات النظام الوجودي، فالهاء يمكن ان تؤخذ كضمير يعود الى الله، كما يمكن ان تؤخذ كضمير يعود الى ادم، وكلا الامرين يقبلان التعيين، ولا شك ان تعيين احدهما دون الاخر قد يتأثر بالمنظومات المعرفية. لذلك فإن اصحاب النظام الوجودي لا يُرجعون الضمير الى ادم، بل يرجعونه الى اسم الجلالة، استناداً الى قبلياتهم الوجودية.

هكذا فتحديد دلالة النص وإن كانت تتشكل بحسب الحقيقة والظهور او بغيرها؛ لكن لا يمكنها ان تستقل عن تأثير القبليات المعرفية. فظاهر النص قد يتحدد بحسب ما عليه النظم المعرفية، اذ تعمل هذه النظم على تشكيل الظاهر الى الحد الذي يكون فيه متعدد الصور والاشكال، كما هو حال توقف الصورة الظلية على طبيعة المرآة التي تظهرها.

ومن الأوْلى ان ينطبق ما سبق ذكره على سائر انماط الاشارة الاخرى التي من الواضح تأثر غالبيتها بطبيعة ما عليه النظام المعرفي. واذا كان الأمر يصدق على نص القراءة الاشارية؛ فمن الاولى ايضاً أن يصدق على نص القراءة الايضاحية (التفسيرية)؛ باعتبارها قائمة على الاولى ومترتبة عليها. فمثلاً قد نجد حالات يتفق عليها المفسرون من حيث الاشارة والظاهر، لكنهم يختلفون حولها من حيث الايضاح والتفسير، تبعاً لاختلاف منظوماتهم القبلية، وهو ما اطلقنا عليه الاستظهار الجدلي.

فمثلاً يتفق المفسرون على ظاهر الآية القرآنية: ((كما بدأكم تعودون))10، من حيث ان الخلق كما بدأ سيعود، لكنهم يختلفون في ايضاحها وشرحها، فهي بحسب نظر بعض اقطاب النظام الوجودي دالة على ان الخلق مثلما بدأ من العقل فالنفس ثم الجسد، فإن العودة ستكون على العكس من الجسد فالنفس فالعقل، كالذي اختاره صدر المتألهين11. وهو تفسير لا يوافق عليه كل من لم ينتمِ الى النظام الوجودي.

كذلك قد نتفق على الاشارة الظاهرية لمعنى الاية القرآنية: ((وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى))، فمفهوم الاية متفق عليه بين العديد من المذاهب والاتجاهات، لكن العلاقة المصداقية او المعنى الايضاحي والتفسيري للاية تجد اختلافاً واسعاً بين المفسرين؛ طبقاً لما تؤول اليه قبلياتهم المعرفية.

وفي التفاسير الوجودية للعرفاء هناك الكثير مما يتفقون به مع غيرهم حول الظاهر او الاشارة، الا انهم يختلفون معهم في الايضاح والتفسير اختلافاً عظيماً تبعاً لاختلاف نظمهم المعرفية. فمثلاً نجد لابن عربي محاولات عديدة للحفاظ على الظهور اللفظي للنص، لكنه يذهب من حيث الايضاح والتفسير الى ما لا يذهب اليه الاخرون من ذوي الاتجاهات الاخرى رغم اتفاقهم على الاخذ بذلك الظاهر. ومن ذلك ما جاء في استظهار قوله تعالى: ((ان الذين يبايعونك انما يبايعون الله))12، وقوله: ((من يطع الرسول فقد اطاع الله))13. فالظاهر معلوم وهو ان مبايعة النبي هي مبايعة لله، وان طاعة الاول هي طاعة للاخر، فهذا المعنى هو موضع الاتفاق بين العلماء، لكن من حيث الايضاح والتفسير فإن القبلية الوجودية لدى ابن عربي تجعله لا يرى الثنائية الظاهرة بين النبي والله، انما الموجود واحد، وهو الله المتعين بحسب الصورة المحمدية، وبالتالي فإن مبايعة النبي وكذا طاعته هي ذاتها مبايعة الله وطاعته، اذ لا وجود لغيره.

على هذا كان من الميسور ان يستظهر هذا العارف المعنى الحرفي للحديث النبوي القائل: «من رآني فقد رأى الحق»14، فظاهر الحديث بيّن في كشفه عن التلازم بين الرؤيتين، لكن ايضاح وتفسير ذلك - عند ابن عربي - نابع من ان رؤية النبي هي ذاتها عين رؤية الله، فمن حيث ان هذا الأخير متعين بالصورة المحمدية - مثلما انه متعين بغيرها من الصور - فهو عين النبي، لذلك فمن رآى النبي فقد رأى الله. مع ان هذا الحديث قد وجد تفسيراً اخر بحسب نظرية المشاكلة بعيداً عن وحدة الوجود الخاصة لابن عربي، تبعاً لمشاكلات الوجود، كالذي يبديه صدر المتألهين ومن قبله الغزالي، والمعنى بحسب هذا التفسير هو ان النبي عبارة عن مظهر من مظاهر الذات الالهية، حيث انه مثالها الاعظم، لذلك فمن رآه فقد رآى الحق استناداً لهذا النوع من المشاكلة، فمثله كمثل الذي يرى الصورة في المرآة ويظنها حقيقة الشخص لا صورته15.

وعلى هذه الشاكلة اتفق ابن عربي مع غيره من المفسرين على المفهوم الظاهر لقوله تعالى: ((يا ايها الناس انتم الفقراء الى الله))16، لكنه اختلف معهم في ايضاح العلاقة المصداقية للفقر بين الله والناس، اذ اعتبر الفقراء هم الذين يفتقرون الى صور الاسباب التي هي عين الله، او انه المتجلي فيها. فهم إذاً يفتقرون الى الله في كل شيء، وليس الى غيره حيث لا وجود للغير، طالما ان الله ظاهر في كل شيء17.

وبذلك يمكن ان نقف على ثلاثة انماط من القراءة لدى النظام الوجودي، فبعضها يصلح للاستظهار وفق المرآة الوجودية، فيما يصلح البعض الاخر للمباطنة والتأويل. ولدينا ثلاثة انواع للاستظهار الوجودي ويقابلها مجموعة اخرى من الممارسات التي تتصف بالمباطنة والتأويل. ونحن نطلق على المجموعة الاولى ثلاثية الاستظهار، وتتضمن العناوين التالية:

الدلالة العبورية: وهي دلالة قياس وعبور من الظاهر الى الباطن لوجود مناسبة ليست مستنكرة في الذهن. ومن ذلك ما قام بتفسيره الغزالي لقوله تعالى: ((اخلع نعليك))18.

التلويح الاشاري: وهو عبور من الظاهر الخاص باللفظ والاصطلاح الى الباطن لوجود مناسبة يحتمل لها ان تكون دالة على المطلوب، اي خلاف ما هو الحال في الدلالة العبورية. ويمكن ان ينطبق هذا التلويح على قوله تعالى: ((وما ظلمناهم ولكن كانوا انفسهم يظلمون))19.

الطباق اللفظي: هو فهم يتطابق فيه الظاهر والباطن ليدل على المعنى الوجودي وفق الدلالات اللغوية والعرفية من دون تكلف ولا تأويل، ومن ذلك قوله تعالى: ((هو الاول والاخر والظاهر والباطن))، وقوله: ((وإن من شيء الا يسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم))20.

أما المجموعة المقابلة فنطلق عليها مجموعة المباطنة والتأويل، وتتخذ انماطاً كثيرة مختلفة، مثل تلك التي فصلنا الحديث عنها في (الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية).

فهذا ما نعنيه بتغاير القراءات الاشارية والايضاحية او التفسيرية، حسب المرايا التي عليها القبليات المعرفية وعلى رأسها القبليات المنظومية.

 

1اسرارالآيات،ص159.

2القصص/88.

3الرحمن/26ـ27.

4حيدرالاملي: رسالةنقدالنقودفيمعرفةالوجود،منشورةفيذيلجامعالاسرارومنبعالانوارللاملي،ص668.

5النحل/118.

6الفصوصوالتعليقاتعليه،ج1،ص40.

7الاسراء/84.

8جامعالاسرار،ص189 و201.

9صحيحالبخاري،حديث5873. ومثله: صحيحمسلم،حديث2841.

10الاعراف/29.

11 صدر المتألهين: مفاتيح الغيب، تقديم وتصحيح محمد خواجوي، مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنگي، ص663.

12الفتح/10.

13النساء/80.

14 صحيح البخاري، حديث 6595ـ6596 . وصحيح مسلم، حديث 2267.

15 تفسير صدر المتألهين، دار التعارف، ج4، ص427ـ428.

16فاطر/15.

17ابنعربي: الفتوحاتالمكية،داراحياءالتراثالعربي،ج2،ص459.

18طه/12.

19النحل/118.

20الاسراء/44.

comments powered by Disqus