-
ع
+

أوهام بيكون والاضافة الجديدة

 

يحيى محمد

يعود تقسيم الاوهام البشرية الى الفيلسوف التجريبي فرانسيس بيكون خلال القرن السابع عشر. ففي كتابه (الاورغانون الجديد) قام بتصنيفها الى انواع اربعة كالتالي:

1ـ اوهام القبيلة، او اوهام الجنس البشري، اذ يشترك فيها البشر كافة. فالذهن البشري هو اشبه بمرآة غير مستوية تتلقى الاشعة من الاشياء وتمتزج طبيعتها الخاصة بطبيعة الاشياء فتشوهها وتفسدها. فهي اوهام تتعلق بتحيزات الروح البشرية وقصور ملكاتها وانفعالاتها، او تأتي من خلال عجز الحواس او شكل انطباعاتها. فوفق هذه الاوهام يتم فرض الميول الذاتية على الاشياء قبل القيام بمحاولات التجربة والاختبار.

2ـ اوهام الكهف، وهي تختص بالفرد، وتصدر«عن الطبيعة الخاصة لعقل كل فرد وجسمه»، كما تتحقق باتباع الفرد لبيئته وثقافته وعاداته وظروفه الخاصة، او تأتي وفقاً لقراءاته واحترامه واعجابه بالشخصيات، او وفق اختلاف الانطباعات التي تتركها الاشياء في الاذهان المختلفة، ومن ثم تتحدد نظرة الفرد للاشياء. وقد اعتبر بيكون هذا النوع اخطر الاوهام.

3ـ اوهام السوق، وهي اوهام اللغة. فالالفاظ اللغوية تتوسط في التعامل بين الناس فينشأ عنها الاستخدام الخاطئ عبر «كلمات سيئة بليدة تعيق العقل، فلا تجدي فيها تعريفات ولا شروح قد دأب المثقفون على التحصن بها احياناً». فهناك خلط ومغالطات توقع الناس في مجادلات لا حصر لها. وهي اكثر الاوهام ازعاجاً، اذ تتسرب الى الذهن من خلال تداعيات الالفاظ.

4ـ اوهام المسرح، وهي اوهام ناتجة عن النظريات والمعتقدات الخرافية، وعن القواعد المغلوطة للبرهان، ويشمل ذلك ما يتعلق بالفلسفات والنظريات القديمة منها والحديثة. ويصل فيها الحال الى ان الكثير من العناصر والمبادئ الخاصة بالعلوم تكون قد تسربت الى العقول علناً واكتسبت قوتها الاقناعية من خلال التقليد والتصديق الساذج1.

***

هذه هي اوهام بيكون الاربعة، ونعتقد انها تحتاج الى شيء من التحليل والاضافة. فعلى الاقل ان هناك نوعاً جديداً يحتاج الى تبيان، وهو الاوهام الصورية في قبال الاوهام التصديقية التي تحدث عنها بيكون. ومن حيث التفصيل نسجّل ملاحظاتنا كما يلي:

اولاً: يلاحظ ان اوهام القبيلة هي اقرب للاوهام الصورية منها الى الاوهام التصديقية. وبعبارة ادق يمكننا اعتبارها تتضمن نوعين من الاوهام، هما الاوهام الصورية والتصديقية. فبيكون يعرّفها ويشبهها بالمرآة غير المستوية وان لها طبيعة خاصة تمتزج مع الاشياء، وهي بذلك تعبر عن الاوهام الداخلة ضمن القبليات الصورية الثابتة اكثر مما تعبر عن الاوهام التصديقية، رغم الامتزاج الحاصل بين القضايا الصورية والتصديقية، لان الاخيرة تتضمن الاولى من دون عكس. لكن في هذه الحالة ان اصل الاوهام يعود الى جهاز الحس الصوري المركب فينا، ومن ثم من المحال علينا الخروج من سجننا الذاتي لنرى الاشياء على حقيقتها وجهاً لوجه كما هي. وفي الدعاء النبوي نقرأ: ربي أرنا الاشياء كما هي.

ثانياً: هناك اوهام صورية اخرى تتصف بكونها عارضة وليست ثابتة واولية كالسابقة، وهي قد تعبر عن المعاني الذهنية والنفسية مثلما قد تعبر عن المعاني الحسية. ومن ابرز ضحايا هذه الاوهام اولئك المصابون بالهلوسة والفصام والبارانويا وغيرها من الامراض النفسية المعروفة. كما يتعرض لها الافراد في المراحل الاولى من الطفولة، حيث يتخيلون اشياء خرافية امام اعينهم. ومثلهم الذين يتناولون جرعات كبيرة من المسكرات وبعض انواع المخدرات. كذلك يتبادر للافراد احياناً بعض من هذه الصور الوهمية عند حالة الاستفاقة والصحو من النوم مباشرة. وتظل هذه الاوهام طارئة ومتغيرة عادة، لكنها بالغة التأثير والوضوح، خلافاً للاوهام الصورية الاولى.

ثالثاً: من حيث التحليل ان اوهام الكهف لدى بيكون تعتمد على صنفين من العوامل الداعية لها، هما العوامل التكوينية والمكتسبة. واذا كانت العوامل المكتسبة واضحة بمصادرها البيئية المختلفة؛ فان العوامل التكوينية تعبر عن ميول وامزجة طبعية تلد مع الفرد وفق تكوينه النفسي والبايولوجي والجيني دون ان تعزى الى البيئة اساساً، ومن ثم انها تفضي الى الاوهام المناطة بها. فمثلاً كثيراً ما نرى الاشقاء لدى الاسرة الواحدة يتصفون بطبائع مزاجية مختلفة تؤثر على ميولهم المعرفية، رغم تشابه الظروف التي يعيشون في ظلها. فقد تجد بعضهم يميل الى الانغلاق او الشدة والحدة في التفكير فيما يميل الاخر الى الانفتاح والهدوء والتسامح. فالمزاج يؤثر في التفكير، ومن كان حاد المزاج فانه يغلب عليه التسرع في الاحكام المعرفية والقيمية ومن ثم الوهم. وكل ذلك قد يكون ضمن تركيبة الفرد من الناحية التكوينية او البايولوجيةوهو ما قد يلقي ضوءاً على طبيعة الشخصيات العلمية التي سادت ماضياً وحاضراً، فبعضهم يتصف بالحدة والتشديد على مستوى الفكر والعقيدة كما هو حال ابن حزم وابن تيمية مثلاً، فيما يتصف البعض الاخر بالاعتدال والتسامح، وبينهما درجات متفاوتة بلا حدود.

 

رابعاً: يعرّف بيكون اوهام المسرح بانها اوهام التفكير المغلوط، او هي نتاج الاستنتاجات الفكرية المغلوطة، وبحسب تحليلنا انها تأتي بنتائج لا تتفق مع ما تقتضيه المقدمات المنطقية، كأوهام اليقين الذاتي الذي لا تبرره المقدمات المرتبط بها. ويكثر هذا النوع من الاوهام لدى منظومات التفكير القديمة. وهي قابلة للتناقل بعدوى التلقين والاعجاب والتقليد من خلال اوهام الكهف، فتبدأ بكونها اوهاماً فكرية، لكنها تستمد بقاءها من خلال التقليد والاعجاب والظروف التي تكتنف اهل العلم والبحث، فهم يتأثرون بقانون التقليد كبقية الناس وفق العوامل البيئية والثقافية. فكثيراً ما يواجه العلماء صعوبة في تغيير وجهة النظر العلمية بعد أن تتوطد الفكرة جيلاً بعد آخر، تبعاً للإلفة والتقليد. فحول نظرية الأثير في فيزياء نيوتن، والتي تشبث بها بعض العلماء بإصرار رغم ما تتضمنه من تناقضات، كتب (ليوبولد انفلد) يقول: «الأحكام المسبقة عميقة الجذور لا تزول بسهولة. فالفيزيائي في القرن التاسع عشر لم يكن على استعداد للتخلي عن نظرية الأثير، لم يكن في وسعه إنكار الادلة المستمدة من التجارب، ولكنه كان يستطيع تغيير حجته». لذلك فقد كان أبو الكيمياء الحديثة لافوازييه يحذر من هذه الأحكام المسبقة، وكما قال: «هذه الافتراضات التي ما برحت تتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل، تكتسب وزناً إضافياً من تأييد الثقات لها إلى أن تقبل آخر الأمر كحقائق أساسية حتى من جانب العباقرة»2.

خامساً: يعتقد بيكون ان من الممكن التخلص من جميع انواع الاوهام عبر ما سماه الاستقراء الصحيح3، اي استنطاق الواقع عبر التجارب والملاحظات والاختبارات، مع انه اذا كنا نعتبر ان من ضمن الاوهام هي تلك المتعلقة بالجانب الصوري الاولي فاننا نعجز عن تعديل هذا النوع. كذلك فانه اذا كان من الممكن للفرد ان يتفادى الكثير من الوهم فانه يعجز عن ان يتفادى جميع حالات الوهم باضطراد، لا سيما اوهام الكهف، وهو مبعث خطورتها.

سادساً: اذا اردنا ان نعيد صياغة الاوهام مع اعترافنا باهمية ما قدمه بيكون في هذا الصدد، فستكون كما يلي:

أ ـ اوهام صورية، وهي على صنفين كالتالي:

1ـ اوهام ثابتة او اولية، وهي التي نتعرّف من خلالها على الاشياء الحسية مباشرة، وتعبر عن الامتزاج بين الطبيعة الذهنية للانسان والاشياء المدركة. وتتصف بانها مشتركة بين البشر كافة.

2ـ اوهام طارئة خلّاقة، وهي غير متأصلة مثلما هي الحال لدى الاولى، كما تتصف بانها غارقة في الوهم الخلّاق والتأثير الذاتي خلافاً لما قبلها، وتحدث لاسباب طارئة كثيرة. ويتحقق ظهورها اول الامر لدى الاطفال الصغار عندما يتخيلون وجود اشياء لا يدل عليها الحال. وبالتالي تتصف بانها احد مصادر اوهام الكهف التصديقية.

ب ـ اوهام تصديقية، وهي ذاتها التي طرحها بيكون والتي سبق عرضها، وباختصار انها تنقسم الى ما يلي:

1ـ اوهام القبيلة، وتتصف بكونها مصدر خداع بسبب الاوهام الصورية.

2ـ اوهام السوق او اللغة.

3ـ اوهام الكهف، وهي على صنفين: كسبية بيئية وطبعية ناتجة عن ميول وامزجة تكوينية. وهي اخطر الاوهام واشدها تأثيراً على البشر.

4ـ اوهام المسرح او التفكير المغلوط، وهي خاصة بالاستنتاجات الفكرية المغلوطة.

ويتبين مما سبق ان هناك نوعين اساسيين للاوهام، هما الاوهام الصورية والتصديقية، وان ما تحدث عنه بيكون بوضوح هو الاخيرة فحسب.

1فرنسيس بيكون: الاورجانون الجديد، ترجمة عادل مصطفى، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 2013م، فقرة 39 وما بعدها، ص28 وما بعدها.

2 العلم في منظوره الجديد.

3الاورجانون الجديد، فقرة 40، ص29.

comments powered by Disqus